من أنّ الصَّدوق تنازل عن بعض آرائه ، أو أخفى جانباً منها ، مراعاةً للصاحب أو للمعتزلة ، وأن يكون هذا تحفُّظاً على قدسيّة تلك الأحكام التي تقول إنّ أي تعديل حصل في رأي الإمامية إنّما كان من جرّاء تأثّرهم بالمعتزلة!
والصَّاحب بن عَبّاد لم يكن في رأي الصدوق ذلك المعتزليّ الذي تصوّره مصادر المعتزلة ، بل كان إماميّاً اثنى عشرياً يمدح الأَئمّة والرضا خاصة ، عليهم السلام في قصائد يصرّح فيها بإمامتهم ، ويؤلّف له الصدوق «عيون أخبار الرضا ، عليه السلام» ويصرّح بذلك في فاتحة الكتاب ، ويذكر شعر الصاحب في ذلك (٢٦٣).
ويجب التفريق في المسائل الكلاميّة بين المسائل التي تمسّ العقيدة مباشرة ، وبين ما لا يكون كذلك ، كالمسائل التي كانوا يعبّرون عنها يومذاك باللطيف من الكلام. وقد ذكر شيخنا المفيد كثيراً من عناوينها في آخر أوائل المقالات (٢٦٤) ، ومهمتي تنحصر ، في هذا المدخل ، في أنّ الإمامية لم يأخذوا عقائدهم من المعتزلة ، ولم يحكمهم التشبيه والجبر يوماً مّا قبل أنْ يتّصلوا بالمعتزلة ، وأمّا التأثر في مثل هذه المسائل ، أو التأثّر في نوعية الاستدلال في المسائل المتفّق عليها فلا أمنعه ، بل هناك شواهد كثيرة على وقوعه ، ولكنه تأثّر وتأثير متقابل ، ولكنذ الذي يحزّ في النفس اغفال تأثر النَّظّام وأبي الطيّب المعتزليَّيْن بهشام بن الحكم مثلاً ، والاهتمام بتأثّر المفيد بالمعتزلة! ولعل الآثار التي تركها متكلِّمو الإِمامية والمعتزلة على حدٍّ سواء ، إن كانت قد سلمَتْ من الضّياع ووصلت إلينا ، لكان لنا رأياً آخر ، ولعلّنا كنا نرجّح حينئذ : أنّ التأثر في جانب الاعتزال بالإِمامية كان أقوى وأكثر من تأثر الإِماميّة بالمعتزلة.
وأمّا مدى تأثر المفيد خاصّة بالمعتزلة في مثل هذه المسائل «اللطيف من الكلام» وفي المسائل التي لا تمسّ العقيدة مباشرة ، وخاصة متابعة المفيد لآراء
__________________
(٢٦٣) عيون الاخبار ، ١ / ٣ ـ ٧.
(٢٦٤) راجع / ٧٢ ـ فما بعد.