وأخلاه من بهي جواهر العقول وثريها ، ثم يقال لولاة أعلى الكلام طبقة وأمتنه ، ولأرباب آنقه طريقة وأحسنه : هاتوا بما ينحو نحوه ، وهلموا بما يحذو حذوه ، فيعترضهم الحجز ، ويتبين فيهم العجز ، فيقال قد استصرفهم الله عن أهون ما كانوا فيه ماهرين ، وأيسر ما كانوا عليه قادرين ، ألم ترهم كيف كانوا يعنقون (١٢٣) في المضمار فوقفوا ، وينهبون الحلبة بخطاهم فقطفوا (١٢٤) ، ولا يقال الله قادر على أن يأتي بما هو أفصح وأفصح ، وأملح لفظا ومعنى وأملح ، فهلا أتى بذلك المتناهي في الفصاحة والمتمادي في الملاحة ، فإن الغرض اتضاح الحجة وقد اتضحت ، وافتضاح الشبهة وقد افتضحت ، وإذا حصل الغرض فليس وراءه معترض.
وأما إغفال السلف لما نحن بصدده ، وإهمالهم الدلالة على سننه ، والمشي على جدده (١٢٥) ، فلأن القوم كانوا أبناء الآخرة ، وإن نشأوا في حجر هذه الغادرة ، ديدنهم قصر الآمال ، وأخذ العلوم لتصحيح الأعمال ، وكانوا يتوخون الأهم فالأهم والأولى فالأولى والأزلف فالأزلف من مرضاة المولى ، ولأنهم كانوا مشاغيل بجر أعباء الجهاد ، معنين (١٢٦) بتقويم صفات أهل العناد ، معكوفي الهمم على نشر الأعلام لنصرة الإسلام ، فكان ما بعث به النبي عليه الصلاة والسلام لتعليمه وتلقينه ، وأرسل للتوقيف عليه وتبيينه ، أهم عندهم مما كانوا مطبوعين على معرفته ، مجبولين على تبين حاله وصفته ، وكان إذ ذاك البيان غضا طريا ، واللسان سليما من اللكنة بريا ، وطرق الفصاحة مسلوكة سائرة ، ومنازلها مأهولة عامرة ، وقد مهد عذرهم تعويلهم على ما شاع وتواتر ، واستفاض وتظاهر ، من عجز العرب وثبات العلم به ورسوخه في الصدور ، وبقائه في القلوب على ممر العصور.
__________________
(١٢٣) يعنقون : أي يسرعون. أنظر «لسان العرب ـ عنق ـ ١٠ : ٢٧٣».
(١٢٤) القطاف : تقارب الخطو في سرعة ، من القطف : وهو القطع. «النهاية ـ قطف ـ ٤ : ٨٤».
(١٢٥) الجدد : الأرض الصلبة ، وفي المثل : «من سلك الجدد أمن العثار». «الصحاح ـ جدد ـ ٢ : ٤٥٢».
(١٢٦) معنين : أي متعبين. أنظر «لسان العرب ـ عنن ـ ١٣ : ٢٩٠».