وبعد انقراض أولئك العرب ، المالئة دلو البلاغة إلى عقد الكرب (١٢٧) ، وبقاء رباعها (١٢٨) بغير طلل (١٢٩) ورسم (١٣٠) ، وذهابها ذهاب جديس وطسم (١٣١) ، لم يبق من هذا العلم إلا نحو الغراب الأعصم (١٣٢) ، والنكتة (١٣٣) البيضاء في نقبة الأدهم (١٣٤) ، وجملة تلك البقية قد اتبعوا سنن الأولين ، وكانوا على عجز العرب معولين ، ولم يقولوا كم بين إيمان السحار وبين إيمان النظار ، ثم أدرج هذا العلم تحت طي النسيان ، كما يدرج الميت في الأكفان.
ولولا أن الله أوزعني أن أنفض عليه لمتي (١٣٥) ، وألهمني أن أنهض إليه بهمتي ، حتى أنفقت على النظر فيه شبابي ، ووهبت له أمري ، وكانت إجالة الفكر في غوامضه دهري ، لم تسمع من أحد فيه همسا ، ولم تلق من ينبس منه بكلمة نبسا ، والله أسأل أن يهديني سبل الإصابة ، ويثيبني على ذلك أحسن إثابة ، فما نويت بما لقيت فيه من عرق الجبين ، إلا التوصل إلى ما فيه من ثلج اليقين ، وإلا
__________________
(١٢٧) مثل سائر مأخوذ من قول الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب حيث يقول :
من يساجلني يساجل ماجدا |
|
يملأ الدلو إلى عقد الكرب |
وهو الحبل الذي يشد في وسط العراقي ثم يثنى ، ثم يثلث ، ليكون هو الذي يلي الماء فلا يعفن الحبل الكبير. يضرب لمن يبالغ فيما يلي من الأمر أنظر «مجمع الأمثال ٢ : ٤٢١ / ٤٧١٥».
(١٢٨) الربع : المنزل ودار الإقامة ، وربع القوم محلتهم ، والرباع جمعه «النهاية ـ ربع ـ ٢ : ١٨٩».
(١٢٩) الطلل : ما شخص من آثار الدار ، والجمع أطلال وطلول. «الصحاح ـ طلل ـ ٥ : ١٧٥٢».
(١٣٠) الرسم : الأثر ، أنظر «مجمع البحرين ـ رسم ـ ٦ : ٧٢».
(١٣١) جديس : قبيلة من العرب العاربة البائدة ، كانت مساكنهم اليمامة والبحرين ، وكان يجاورهم طسم ، وهي قبيلة من العرب العاربة أيضا ، تنتسب إلى طسم بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح ، وقد انقرضت. أنظر «معجم قبائل العرب ١ : ١٧٢ و ٢ : ٦٨٠ ، ومصادره».
(١٣٢) الغراب الأعصم : الذي في جناحه ريشة بيضاء لأن جناح الطائر بمنزلة اليد له. «الصحاح ـ عصم ـ ٥ : ١٩٨٦».
(١٣٣) النكتة ، بالضم : النقطة. «القاموس المحيط ـ نكت ـ ١ : ١٥٩».
(١٣٤) الدهمة : السواد. يقال : فرس أدهم ، وبعير أدهم ، وناقه دهماء ، إذا اشتدت ورقته حتى ذهب البياض الذي فيه. «الصحاح ـ دهم ـ ٥ : ١٩٢٤».
(١٣٥) اللمة : الهمة ، والخطرة تقع في القلب «النهاية ـ لمم ـ ٤ : ٢٧٣».