وسبيبها (١١٦) لناصيتها ، واتصافها بما هو طراز الأمر كله من مجيئها ، مع كونها مشحونة بالنكت الجلائل ، مكتنزة بالمحاسن غير القلائل ، خالية من تصنع من يتناول التنكيت ، وتعمل من يتعاطى بمحاجته التبكيت (١١٧) ، وكأنها كلام من يرمي به على عواهنه ، ولا يتعمد إلى إبلاغ نكته ومحاسنه ، ولا يلقاك ذلك إلا في كلام رب العالمين ، ومدبر الكلام والمتكلمين ، فسبحان من لو أنزل هذه الواحدة وحدها ، ولم ينزل ما قبلها وما بعدها ، لكفى بها آية تغمر الأذهان ، ومعجزة توجب الاذعان ، فكيف بما أنزل من السبع الطوال ، وما وراءها إلى المفصل (١١٨) ، والمفصل ، يا لها من معجزة كم معجزات في طيها ، عند كل ثلاث آيات تقر الألسن بعيها ، لو أراد الثقلان تسلية المغيظ المحنق ، لأخذت من أفاصحهم بالمخنق ، إن هموا بإنشاء سورة توازيها ، وثلاث آيات تدانيها. هيهات قبل ذلك يشيب الغراب ، ويسيب الماء كالسراب.
ودع عنك حديث الصرفة (١١٩) ، فما الصرفة إلا صفرة (١٢٠) من النظام ، وفهة (١٢١) منه في الإسلام ، ولقد ردت على النظام صفرته ، كما ردت عليه طفرته ، ولو صح ما قاله لوجب في حكمة الله البالغة ، وحجته الدامغة أن ينزله على أرك نمط وأنزله ، وأفسل (١٢٢) أسلوب وأسفله ، وأعراه من حلل البلاغة وحليها ،
__________________
(١١٦) البيب : شعر الذنب «لسان العرب ـ سبب ـ ١ : ٤٥٩».
(١١٧) بكته بالحجة أي غلبه «لسان العرب ـ بكت ـ ٢ : ١١».
(١١٨) المفصل من القرآن السبع الأخير ، وذلك للفصل بين القصص بالسور القصار ، والفواصل آواخر الآي «مفردات ألفاظ القرآن ـ فصل ـ ٣٨١».
(١١٩) الصرفة : هي مما ذهب إليه النظام المعتزلي في إعجاز القرآن ، وهو صرف الدواعي عن المعارضة ، ومنع العرب عن الاهتمام به جبرا وتعجيزا ، حتى لو خلاهم سبحانه لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله بلاغة وفصاحة ونظما. أنظر «الملل والنحل ١ : ٥٨».
(١٢٠) يقال : إنه لفي صفرة ، للذي يعتريه الجنون ، إذا كان في أيام يزول فيها عقله ، لأنهم كانوا يمسحونه بالزعفران. «الصحاح ـ صفر ـ ٢ : ٧١٤».
(١٢١) الفهة : السقطة والجهلة. يقال : فه الرجل يفه فهاهة وفهة ، فهوفة وفهيه : إذا جاءت منه سقطة من العي وغيره «النهاية ـ فهه ـ ٣ : ٤٨٢».
(١٢٢) الفسل : الردئ من كل شئ. «مجمع البحرين ـ فسل ـ ٥ : ٤٤٠».