وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) انك لم تجد ما وجدته لهذه الالفاظ من المزية الظاهرة الا لامر يرجع الى تركيبها ، وانه لم يعرض لها هذا الحسن الا من حيث لاقت الاولى بالثانية ، والثالثة بالرابعة ، وكذلك الى آخرها ، فان ارتبت في ذلك فتأمل : هل ترى لفظة منها لو اخذت من مكانها وافردت من بين اخواتها ، كانت لابسة من الحسن ما لبسته في موضعها من الآية؟
ومما يشهد لذلك ويؤيده : انك ترى اللفظة تروقك في كلام ، ثم تراها في كلام آخر فتكرهها ، فهذا ينكره من لم يذق طعم الفصاحة ولا عرف اسرار الالفاظ في تركيبها وانفرادها ، وسأضرب لك مثالا يشهد بصحة ما ذكرته ، وهو : انه قد جاءت لفظة واحدة في آية من القرآن وبيت من الشعر ، فجاءت في القرآن جزلة متينة ، وفي الشعر ركيكة ضعيفة. فأثر التركيب فيها هذين الوصفين الضدين ، اما الآية فهي قوله تعالى : (فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) واما بيت الشعر فهو قول أبي الطيب المتنبي :
تلذ له المروءة وهي تؤذي |
|
ومن يعشق يلذ له الغرام |
وهذا البيت من ابيات المعاني الشريفة ، الا ان لفظة «تؤذى» قد جاءت فيه وفي الآية من القرآن ، فحطت من قدر البيت لضعف تركيبها ، وحسن موقعها في تركيب الآية ، فانصف ـ أيها المتأمل ـ لما ذكرناه واعرضه على طبعك السليم ، حتى تعلم صحته ، وهذا موضع غامض يحتاج الى فكر وامعان نظر ، وما تعرض للتنبيه عليه احد قبلي ، وهذه اللفظة التي هي «تؤذى» اذا جاءت في كلام : فينبغي