الثالث : الغرض المقصود من ذلك الكلام على اختلاف انواعه ، وحكم ذلك حكم الموضع الذي يوضع فيه العقد المنظوم ، فتارة يجعل اكليلا على الرأس ، وتارة يجعل قلادة في العنق ، وتارة يجعل شنفا في الاذن ، ولكل موضع من هذه المواضع هيئة من الحسن تخصه ، فهذه ثلاثة أشياء لا بد للخطيب والشاعر من العناية بها ، وهي الأصل المعتمد عليه في تأليف الكلام : من النظم ، والنثر ، فالأول والثانى من هذه الثلاثة المذكورة ، هما المراد بالفصاحة ، والثلاثة بجملتها هي المراد بالبلاغة ، وهذا الموضع يصل في سلوك طريقه العلماء بصناعة صوغ الكلام من النظم والنثر ، فكيف الجهال الذين لم تنفحهم رائحته ومن الذي يؤتيه الله فطرة ناصعة يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار ، حتى ينظر الى اسرار ما يستعمله من الألفاظ ، فيضعها في مواضعها ، ومن عجيب ذلك انك ترى لفظتين تدلان على معنى واحد ، وكلاهما حسن في الاستعمال ، وهما على وزن واحد» وعدة واحدة ، الا انه لا يحسن استعمال هذه في كل موضع تستعمل فيه هذه ، بل يفرق بينهما في مواضع السبك ، وهذا لا يدركه الا من دق فهمه وجل نظره.
فمن ذلك قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) وقوله تعالى : (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) فاستعمل الجوف في الاولى والبطن في الثانية ، ولم يستعمل الجوف موضع البطن ، ولا البطن موضع الجوف ، واللفظتان سواء في الدلالة ، وهما : ثلاثيتان في عدد واحد ، ووزنهما واحد ـ ايضا ـ فانظر الى سبك الألفاظ كيف تفعل.
ومما يجرى هذا المجرى ، قوله تعالى : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ