__________________
ـ فليس استخدامنا المصدر القياسى مع وجود السماعى إلا كاستخدامنا الألفاظ والكلمات التى تجرى عليها الرفع ، أو النصب ، أو الجر ، أو الجزم فى أساليبنا الخاصة التى ننشئها إنشاء يختاره كل منا على حسب هواه ، ونؤلفها تأليفا مبتكرا لم تنطق به العرب نصا ، ولم تعلم عنه شيئا ، وإن كان لا يخرج فى هيئة تكوينه ، ومادة كلماته ، وترتيبها ، وضبط حروفها ـ على النسق الوارد عنهم ، ولا يتعدى حدودهم العامة ، فهى أساليبنا ، ومن صنعنا ، وهى فى الوقت نفسه أساليب عربية صميمة ، وتسمى بهذا الاسم ؛ لجريانها على النظام العربى الأصيل فى مفرداتها ، وطرائق تركيبها ، وضبط حروفها ؛ فلا مسوغ عند هؤلاء لمنع استخدام المصدر القياسى مع وجود السماعى المعروف.
وشىء آخر : هو أن قصر القياس فى هذا الباب على الأفعال التى لم يرد لها مصادر مسموعة ، يقتضينا أن نرجع لكل المظان المختلفة ، ونطيل البحث ؛ حتى نطمئن إلى عدم وجود مصدر سماعى للفعل ؛ كى نستبيح استعمال المصدر القياسى. وفى هذا من الجهد المضنى والوقت ما لا يقدر عليه خاصة الناس ، بله عامتهم. ولو أخذنا به قبل استعمال كل مصدر لحملنا أنفسنا مالا تطيق ، ودفعناها إلى اليأس ، والانصراف عن لغتنا ، وأنكرنا واقع الحياة الذى قضى باستقلال العلوم والفنون ، وتفرغ طوائف العلماء للفروع المستقلة ، والاعتماد على رأيهم الخاص فيما تفرغوا له ، واستحالة أن يتخصصوا معه فى «اللغويات».
ثم ما هو المراد الدقيق من عدم معرفة المصدر الوارد للفعل؟ ما حدود هذا؟ وما ضبطه؟ وكيف يتحقق مع تفاوت الناس علما ، وعملا ، واقتدارا على استحضار المراجع وغيرها؟ ...
إن رأى الفراء وأنصاره رأى سديد ؛ فيه رفق ، وحكمة ، ومسايرة واضحة لطبائع الأشياء. وليس فيه ما يسىء إلى اللغة ، أو يسد المسالك أمام الراغبين فيها ، المقبلين على اصطناعها وإعلاء شأنها. ولهذا يجب الأخذ به وحده ، والاقتصار عليه ، حفاظا على حياة اللغة ، وإبقائها ـ على الأيام ـ فتية متجددة الشباب والنفع. وقد يكون المصدر الذى نصنعه ولم ينطق بلفظه العرب نصا ـ غريبا على الأسماع ، ولكن هذه الغرابة والوحشة يزولان بالاستعمال.
ثانيهما : أن الراجع إلى الكلام العربى الأصيل ، أو المطولات اللغوية. قد يجد مصادر أخرى مسموعة لا تساير تلك الضوابط والقواعد برغم دقتها وإحكامها. وهذه المصادر الأخرى هى التى يسمونها : «مصادر سماعية» ، أو : «مصادر شاذة» أو : «مصادر قليلة الاستعمال ؛» أو ما شاكل هذا من الأسماء الدالة على قلتها وعدم صحة القياس عليها ...
والحكم الصحيح على مثل هذه المصادر السماعية أنه يجوز استعمال كل واحد منها ـ بذاته ـ مصدرا سماعيا مقصورا على فعله الخاص ؛ فلا يجوز استخدام وزنه فى إيجاد صيغة كصيغته لفعل آخر غير فعله المعين ، ويجوز ـ أيضا ـ استعمال المصدر القياسى لفعله ، فاستعمال المصدر السماعى لفعل معين لا يمنع استعمال المصدر القياسى لهذا الفعل ؛ فمن شاء أن يصطنع المسموع أو القياسى فله ما شاء ، ويجرى هذا على كل فعل له مصدران مقيس ومسموع ، فإن استعمال أحدهما مباح. وإلا كلفنا جمهرة الناس مالا تطيق ـ كما تقدم ـ ؛ إذ نطالبها بمعرفة المسموع لكل قياسى ، والاقتصار على هذا المسموع وحده. وفى هذا من التعجيز وتعطيل القياس أفدح الضرر. ـ