ولا يتوقف العقل فى فهم دلالتها الحقيقية فهما سريعا. فما الداعى لإخراج الحرف من أمر يدخل فيه غيره ، ولإبعاده عما يجرى على نظائره؟
إنه نظيرها ؛ فإذا اشتهر معناه فى العرف ، وشاعت دلالته ؛ بحيث يفهمها السامع بغير غموض ، كان المعنى حقيقيّا لا مجازيّا ، وكانت الدلالة أصيلة لا علاقة لها بالمجاز ، ولا بالتضمين ولا بغيرهما ، فالأساس الذى يعتمد عليه هذا المذهب فى الحكم على معنى الحرف بالحقيقة هو شهرة هذا المعنى وشيوعه ، بحيث يتبادر ويتضح سريعا عند السامع ؛ لأن هذه المبادرة علامة الحقيقة. وإن من يسمع قول القائل : (كنت فى الصحراء ، ونفد ما معى من الماء ، وكدت أهلك من الظمأ ، حتى صادفت بئرا شربت من مائها العذب ما حفظ حياتى التى تعرضت للخطر من يومين ...) سيدرك سريعا معنى الحرف : «من» وقد تكرر فى الكلام بمعان مختلفة : أولها : بيان الجنس. وثانيها : السببية ، وثالثها : البعضية. ورابعها : الابتداء ... و...
كذلك من يسمع قول القائل : «إنى بصير فى الغناء : يستهوينى ، ويملك مشاعرى إذا كان لحنه شجيّا ، وعبارته رصينة ؛ كالأبيات التى مطلعها :
ربّ ورقاء هتوف فى الضّحا |
|
ذات شجو صدحت فى فنن |
.......».
فإن معانى الحرف : «فى» ستبتدر إلى ذهنه. فالأول : للإلصاق. والثانى : للظرفية. والثالث : للاستعلاء. وكل واحد من المعانى السالفة يقفز إلى الذهن سريعا بمجرد سماع حرف الجر خلال جملته. وهذا علامة الحقيقة ـ كما سبق ـ.
فإذا كان المعنى من الشيوع ، والوضوح وسرعة الورود على الخاطر ـ بالصورة التى ذكرناها ، ففيم المجاز أو التضمين أو غيرهما؟ إن المجاز أو التضمين أو نحوهما يقبلان ، بل يتحتمان حين لا يبتدر المعنى إلى الذهن ، ولا يسارع الذهن إلى التقاطه ؛ بسبب عدم شيوعه شيوعا يجعله واضحا جليّا ، وبسبب عدم اشتهاره شهرة تكفى لكشف دلالته فى يسر وجلاء. أما إذا شاع واشتهر وتكشف للذهن سريعا فإن هذا يكون علامة الحقيقة ـ كما قلنا ـ فلا داعى للعدول عنها ،