لا أعرف صدقك إلا بالنّظر ، والنّظر لا أفعله إلا إذا وجب علىّ وعرفت وجوبه ، إنّ الوجوب عليك محقّق بالشّرع في نفس الأمر ، ولكن لا يلزم أن تعرف ذلك الوجوب ، فإن قال : الوجوب موقوف على علمي به ، قلنا : لا يتوقّف ، إذ العلم بالوجوب موقوف على الوجوب ، فلو توقّف الوجوب على العلم بالوجوب لزم الدّور ، فليس الوجوب في نفس الأمر موقوفا على العلم بالوجوب ، (١) فان قال : ما لم أعرف الوجوب لم أنظر ، قلنا : ما ذا تريد من الوجوب الذي ما لم تعرفه لم تنظر؟ فان قال : أريد بالوجوب ما يكون ترك الواجب به إثما وفعله ثوابا ، قلنا : فقد أثبت الشّرع حيث قلت بالثّواب ، وإلا فبطل قولك : ووجوبه لا أعرف إلا بقولك ، فاندفع الإفحام وإن قال : أردت بالوجوب ما يكون ترك الواجب قبيحا لا يستحسنه العقلا ، ويترتّب عليه المفسدة ، فيرجع إلى استحسان العقل ، قلنا : فأنت تعرف هذا الوجوب إذا راجعت العقلاء وتأمّلت فيه بعقلك ، فإنّ كلّ عاقل يعرف أنّ ترك النّظر في معرفة خالقه مع بثّ النّعم قبيح وفيه مفسدة ، فبطل قوله : لم أنظر ما لم أعرف الوجوب واندفع الإفحام ، لا يقال : هذا الوجه الثّاني هو عين القول : بالحسن والقبح العقليّين ، وليس هذا مذهب الأشاعرة ، بل هذا إذعان لمذهب المعتزلة ومن تابعهم ، لأنا نقول : ليس هذا من الحسن والقبح الذين وقع فيهما المنازعة أصلا ، لأنّ الحسن والقبح بمعنى تعلّق المدح (٢) والثواب والذّم و
__________________
(١) وهذا غير متوجه بناء على الالتزام بالمراتب في الحكم وجعل العلم بمرتبة شرطا لتحقق مرتبة أخرى منه كما لا يخفى والمراتب هي الاقتضاء والإنشاء والفعلية والتنجز اما لو نوقش في تعدد المراتب له كما ذهب اليه بعض اهل العصر نظرا الى ان مرتبة الاقتضاء ليست من الحكم إذ هي الداعية والداعي الى الشيء خارج عنه وان المراتب في الخارجيات والاحكام من سنخ الاعتباريات فلا مسرح للاعتراض المذكور.
(٢) وسيأتي ان الحسن والقبح بمعنى تعلق الثواب والعقاب مما اخترعه الناصب تبعا لبعض مشايخه الأشعريين وليس منه في كلمات من سبقه عين ولا اثر.