استباحوا عسكره فهرب وساق امرأته وأولاده صغاراً فألجأه الطلب عند المساء إلى أجمة على شاطيء النهر فدخلها مع أهله وولده وسيّب دوابّه مخافة أن تدل عليه بصهيلها فباتوا في الاجمة وهم يسمعون وقع حوافر الخيل من كلِّ جانب فأصبح الرَّجل لا يطيق براحاً ، وأمّا النهر فلا يستطيع عبوره ، وأمّا الفضاء فلا يستطيع الخروج إليه لمكان العدوِّ ، فهم في مكان ضيّق قد أذا هم البرد وأهجرهم الخوف وطواهم الجوع ، وليس لهم طعام ولا معهم زاد ولا إدام ، وأولاده صغار جياع يبكون من الضرِّ الّذي قد أصابهم فمكث بذلك يومين ، ثمّ إنَّ أحد بنيه مات فألقوه في النهر فمكث بعد ذلك يوماً آخر فقال الرَّجل لامرأته : إنّا مشرفون على الهلاك جميعاً وإن بقي بعضنا وهلك بعضنا كان خيراً من أن نهلك جميعاً وقد رأيت أن أعجل ذبح صبيٍّ من هؤلاء الصبيّان فنجعله قوتا لنا ولاولادنا إلى أن يأتي الله عزَّ وجلَّ بالفرج فإن أخرنا ذلك هزل الصبيان حتّى لا يشبع لحومهم ونضعف حتّى لا نستطيع الحركة أن وجدنا إلى ذلك سبيلا ، وطاوعته امرأته فذبح بعض أولاده ووضعوه بينهم ينهشونه ، فما ظنّك يا ابن الملك بذلك المضطرِّ؟ أكل الكلب المستكثر يأكل؟ أم أكل المضطرِّ المستقلِّ؟ قال ابن الملك : بل أكل المستقل ، قال الحكيم : كذلك أكلي وشربي يا ابن الملك في الدنيا.
فقال له ابن الملك : أرأيت هذا الّذي تدعوني إليه أيّها الحكيم أهو شيءٌ نظر النّاس فيه بعقولهم وألبابهم حتّى اختاروه على ما سواه لانفسهم أم دعاهم الله إليه فأجابوا ، قال الحكيم : علا هذا الامر ولطف عن أن يكون من أهل الأرض أو برأيهم دبّروه ، ولو كان من أهل الأرض لدعوا إلى عملها وزينتها وحفظها ودعتها ونعيمها ولذَّتها ولهوها ولعبها وشهواتها ، ولكنّه أمر غريب ودعوة من الله عزَّ وجلَّ ساطعة ، وهدى مستقيم ، ناقض على أهل الدُّنيا أعمالهم ، مخالف لهم ، عائب عليهم ، وطاعن ناقل لهم عن أهوائهم ، داع لهم إلى طاعة ربّهم ، وإن ذلك لبيّن لمن تنبّه ، مكتوم عنده عن غير أهله حتّى يظهر الله الحق بعد خفائه ويجعل كلمته العليا وكلمة الّذين جهلوا السفلى.