فلمّا فطن الغلام بحصرهم إيّاه في المدينة ومنعهم إيّاه من الخروج والنظر والاستماع وتحفّظهم عليه ارتاب لذلك وسكت عنه وقال في نفسه هؤلاء أعلم بما يصلحني منّي حتّى إذا ازداد بالسّنِّ والتجربة علما قال : ما أرى لهؤلاء عليَّ فضلاً وما أنا بحقيق أن اقلّدهم أمري ، فأراد أن يكلم أباه إذا دخل عليه ويسأله عن سبب حصره إيّاه ، ثمّ قال : ما هذا الامر إلّا من قبله وما كان ليطلعني عليه ولكنّي حقيق أن ألتمس علم ذلك من حيث أرجو إدراكه ، وكان في خدمه رجل كان ألطفهم به وأرأفهم به ، وكان الغلام إليه مستأنساً فطمع الغلام في إصابة الخبر من قبل ذلك الرَّجل فازداد له ملاطفة وبه استيناسا ، ثمّ أنَّ الغلام واضعه الكلام في بعض الليل باللين وأخبره أنَّه بمنزلة والده وأولى النّاس به ، ثمّ أخذه بالترغيب والترهيب وقال له : إنّي لاظن هذا الملك صائر لي بعد والدي وأنت فيه صائر أحد رجلين إما أعظم النّاس منه منزلة وأمّا أسوء النّاس حالا ، قال له الخاضن (١) وبأي شيء أتخوف في ملكك سوء الحال؟ قال : بأن تكتمني اليوم أمراً أفهمه غدا من غيرك ، فأنتقم منك بأشد ما أقدر عليك ، فعرف الحاضن منه الصدق وطمع منه في الوفاء فأفشى إليه خبره ، والّذي قال المنجمون لابيه ، والّذي حذر أبوه من ذلك ، فشكر له الغلام ذلك وأطبق عليه حتّى إذا دخل عليه أبوه.
قال : يا أبة إنّي وإن كنت صبيّاً فقد رأيت في نفسي واختلاف حالي أذكر من ذلك ما أذكر وأعرف بما لا أذكر منه ما أعرف وأنا أعرف إنّي لم أكن على هذا المثال وأنَّك لم تكن على هذه الحال ، ولا أنت كائن عليها إلى الأبد وسيغيّرك الدَّهر عن حالك هذه ، فلئن كنت أردت أن تخفي عنّي أمر الزوال فما خفي عليَّ ذلك ، ولئن كنت حبستني عن الخروج وحُلت بيني وبين النّاس لكيلا تتوق نفسي إلى غير ما أنا فيه لقد تركتني بحصرك إيّاي ، وإن نفسي لقلقة ممّا تحول بيني وبينه حتّى ما لي همٌّ
__________________
(١) الحاضن فاعل من حضنه أي جعله في حضنه ـ والحضن ما دون الابط لى االكشح أو الصدر والعضدان وما بينهما ـ أي الحافظ والمؤدب.