الباب الخامس
في جمل من أخبار البلدان
قال الحجّاج لزادان فرّوخ : أخبرني عن العرب والأمصار. فقال : أصلح الله الأمير ، أنا بالعجم أبصر منّي بالعرب. قال : لتخبرني. قال : سلني عمّا بدا لك. قال : أخبرني عن أهل الكوفة. قال : نزلوا بحضرة أهل السواد ، فأخذوا من مناقبهم ومن سماحتهم. قال : فأهل البصرة؟ قال : نزلوا بحضرة الخوز فأخذوا من مكرهم وبخلهم. قال : فأهل الحجاز؟ قال : نزلوا بحضرة السّودان فأخذوا من خفّة عقولهم وطربهم. فغضب الحجاج ، فقال : أعزّك الله ، لست منهم حجازيّا ، أنت رجل من أهل الشام. قال : أخبرني عن أهل الشام. قال : نزلوا بحضرة أهل الروم فأخذوا من ترفّقهم وصناعتهم وشجاعتهم. وسأل معاوية ابن الكوّاء عن أهل الكوفة ، فقال : أبحث الناس عن صغيرة ، وأضيعهم لكبيرة. قال : فأهل البصرة؟ قال : غنم وردن جميعا وصدرن شتّى. قال : فأهل الحجاز؟ قال : أسرع الناس إلى فتنة وأضعفهم فيها. قال : فأهل مصر؟ قال : أجدّاء أحدّاء أشدّاء أكلة من غلب. قال : فأهل الموصل؟ قال : قلادة أمّة فيها من كل خرزة. قال : فأهل الجزيرة؟ قال : كناسة بين المصرين. ثم سكت. قال ابن الكوّاء : سلني. فسكت. قال : لتسأل أو لأخبرك عمّا عنه تحيد. قال : أخبرني عن أهل الشام. قال : أطوع الناس لمخلوق ، وأعصاهم لخالق.
وقد جعلت القدماء ملوك الأرض طبقات ، فأقرّت ، فيما زعموا ، جميع الملوك لملك بابل بالتعظيم ، وأنه أول ملوك العالم ، ومنزلته فيها كمنزلة القمر في الكواكب ، لأن إقليمه أشرف الأقاليم ، ولأنه أكثر الملوك مالا ، وأحسنهم طبعا ، وأكثرهم سياسة وحزما ، وكانت ملوكه يلقّبونه بشاهنشاه ، ومعناه ملك الملوك ، ومنزلته من العالم كمنزلة القلب من الجسد والواسطة من القلادة. ثم يتلوه في العظمة ، ملك الهند ، وهو ملك الحكمة ، وملك الغلبة ، لأن عند الملوك الأكابر : الحكمة من الهند. ثم يتلوا ملك الهند في الرتبة ، ملك الصين ، وهو ملك الرعاية والسياسة وإتقان الصنعة ، وليس في ملوك العالم أكثر رعاية وتفقّدا من ملك الصين في رعيّته وجنده وأعوانه ، وهو ذو بأس شديد ، وقوّة ومنعة ، له الجنود المستعدّة ، والكراع والسلاح ، وجنده ذو أرزاق مثل ملك بابل. ثم يتلوه ملك الترك ، صاحب مدينة كوشان ، وهو ملك التغزغز ، ويدعى ملك السباع ، وملك الخيل ، إذ ليس في ملوك العالم أشدّ من رجاله ، ولا أجرأ منه على سفك الدماء ، ولا أكثر