ومع أنه كان يعارض أهل بعض المذاهب الأخرى. ولا سيّما الشيعة ، فانه حين اضطهده خادم المقتفي لجأ إلى الله تعالى ، واكتفى بأن دعا عليه. وكان يشيد في كتبه بالأمانة والصدق والعفة كما نرى في كتابه «ذمّ الهوى» ، وفي كتابه «صفة الصفوة». وهو يحب الحقّ في المناظرة ، فتراه يقول : «ومن ذلك أحدهم يتبين له الصواب مع خصمه ، ولا يرجع ، ويضيق صدره كيف ظهر الحق مع خصمه ، وربما اجتهد في رده مع علمه أنه الحق ، وهذا من أقبح القبائح ، لأن المناظرة إنما وضعت لبيان الحق» (١٠٠).
ويظهر من مجالسه ووعظه ، وتهافت الناس على حضورها وسماعه ، وتوبة الكثيرين على يديه ، أنه كان ديّنا حقّا ومخلصا في عقيدته. وقد شهد بذلك الرحالة ابن جبير كما رأينا حين حضر مجالسه ، وأثنى عليه في كتاب رحلته ، وذكر التائبين على يديه ، وكيف كان يملأ الناس انابة وندامة.
ومع أن سبطه ذكر عنه أنه ما مازح أحدا قطّ ، فاننا نرى في اخباره أنه كان على رزانته يحب المزاح اللطيف والمفاكهة ، بحيث قال عنه ابن العماد الحنبلي (وقد أكثر النقل عنه) : «وله مجون لطيف ومداعبات حلوة» (١٠١). وقال عنه ابن الفرات : «وكان له على المنبر نكت لطاف ، ومعاني [كذا] طراف ، على طريقة البغداديين ، لا يكاد يفهمها غيرهم. كان يتخالع فيها ويتمازح» (١٠٢). منها واحدة تدل على نباهته وسرعة خاطره ، فقد زعموا «أنه وقع النزاع ببغداد بين أهل السنة والشيعة في المفاضلة بين أبي بكر وعلي (رضي الله عنهما) ، فرضي الكل بما يجيب الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي ، فأقاموا شخصا يسأله عن ذلك وهو على الكرسي في مجلس
__________________
(١٠٠) ابن الجوزي (تلبيس) ١٢٠.
(١٠١) ابن العماد الحنبلي ٤ : ٣٣٠.
(١٠٢) ابن الفرات المجلد ٤ ج ٢ ص ٢١٦.