__________________
ثم قال الباحث المعاصر :
١ ـ وشواهد هذا الاستعمال كثيرة فى الحديث والشعر ؛ منها ـ غير ما تقدم ـ قول رافع فى البخارى فى باب الحرث والزرع :(«كنا نكرى الأرض بالناحية ، منها مسمى لسيّد الأرض ، قال فمما يصاب ذلك وتسلم الأرض ، ومما تصاب الأرض ويسلم ذلك ...). ومنها قول ابن عباس الوارد فى صحيح مسلم فى كتاب تعبير الرؤيا («إن رسول الله كان مما يقول لأصحابه : «من رأى منكم رؤيا فليقصّها أعبرها له»). ومنها قول البراء بن عازب :(«كنا إذا صلينا خلف رسول الله مما نحب أن نكون عن يمينه.») ومنها :
وإنّا لممّا نضرب الكبش ضربة |
|
على رأسه تلقى اللسان من الفم |
ثم قال الباحث : تعرض لهذا اللفظ السيرافى فى شرح كتاب سيبويه بما نصه : (قال سيبويه : اعلم أنهم مما يحذفون الكلم وإن كان أصله فى الكلام غير ذلك ...) ، قال السيرافى : (أراد : ربما يحذفون ... وهو يستعمل هذه الكلمة كثيرا فى كتابه. والعرب تقول : أنت مما تفعل كذا ... أى :ربما تفعل. وتقول العرب أيضا : «أنت مما أن تفعل. أى : أنت من الأمر أن تفعل ؛ فتكون «ما» بمنزلة الأمر ـ أى : الشىء ـ و «أن تفعل» بمنزلة الفعل ؛ (أى : مصدر تقديره : «فعل» ، أى : بمنزلة هذا اللفظ) ويكون «بأن تفعل» ، فى موضع رفع بالابتداء ، وخبره : «مما» وتقديره : أنت فعلك كذا وكذا من الأمر الذى تفعله ...») اه. وكلام السيرافى ـ كما نقله الباحث ـ لم يوضح الأسلوب الأخير المشتمل على : (أن تفعل)
٢ ـ ومن السيرافى أخذ ابن هشام فى كتابه المغنى عند الكلام على معانى : «من» ، فقال عن العاشر من معانيها (مرادفة : «ربما» وذلك إذا اتصلت «بما» كما فى قول الشاعر أبى حية النميرى :
وإنا لمما نضرب الكبش ضربة |
|
على رأسه تلقى اللسان من الفم |
قاله السيرافى وفريق غيره من النحاة وخرجوا عليه قول سيبويه : «واعلم أنهم مما يحذفون الكلم ...». والظاهر أن «من» فيهما ابتدائية ، و «ما» مصدرية ، وأنهم جعلوا كأنهم خلقوا من الضرب مثل خلق الإنسان من عجل.) اه.
وفى كلامه هذا احتمال مخالفتهم فى أن جعلوها بمنزلة : «ربما» ، لأن : «ربما» لا تتعين للتكثير ، واحتمال أنه فسر كلامهم بحمله على إرادة التكثير كما فسر آخرون.
وقد أشار ابن هشام ـ كبعض من سبقوه ـ إلى كيفية الحذف التى اعتورت هذا التركيب ، وأبقت فيه معنى التكثير ، أو معنى «ربما» ، أو غير ذلك ، كما هو واضح من كلامهم حيث يظهر ترددهم فى منشأ معنى التكثير ؛ أمنشؤه الحرف «من» كما يرى ابن هشام ، أم الحرف («ما» كما يرى غيره؟ ٣ ـ وينبغى التنبه إلى أن هذا التركيب إذا استعمل هذا الاستعمال يجىء فى موضع خبر المبتدأ ويجىء فى موضع خبر «كان» ؛ .... ويكون فى موضع الحال .... و... فمن ظن اختصاص ذلك بخبر «كان» فقد وهم. والتنبه إلى أن أصل استعماله فى هذا المعنى ألا يصرح معه بلفظ الكثرة ، فما وقع فيه لفظ كثير فهو جار مجرى التفسير من الراوى ، أو مجرى التأكيد من القائل ؛ لخفاء دلالة التركيب على التكثير ، ومثاله قول سمرة بن جندب : «كان رسول الله مما يكثر أن يقول لأصحابه هل رأى أحد منكم رؤيا ...؟» ، وقول أبى موسى : «وكان رسول الله كثيرا مما يرفع رأسه إلى السماء».
والتنبه إلى أن قول السيرافى : وتقول العرب أيضا «أنت مما أن تفعل ...» ـ غريب ، لا يعرف شاهده من فصيح الكلام ؛ فضلا عن كون الحرف «أن» فيه غير واقع موقعا ، مع ما فيه من اجتماع ثلاثة أحرف متوالية من أحرف المعانى ، وهى : «من» و «ما» و «أن» سواء أجعلت «ما» مصدرية أم زائدة. وإلى هنا انته كلام الباحث ، بعد الاستغناء عن بضع كلمات منه.
هذا ويوضح ما سبق أيضا ما جاء فى كتاب سيبويه ـ ج ١ ص ٤٧٦» ـ أن «من» الجارة إذا كفّت بالحرف «ما» الزائد قد تكون بمعنى : «ربما» واستشهد بالبيت السالف.