إنه النحو ؛ وسيلة المستعرب ، وسلاح اللغوى ، وعماد البلاغىّ ، وأداة المشرّع والمجتهد ، والمدخل إلى العلوم العربية والإسلامية جميعا.
فليس عجيبا أن يصفه الأعلام السابقون بأنه : خ خ ميزان العربية ، والقانون الذى تحكم به فى كل صورة من صورها (١) وأن يفرغ له العباقرة من أسلافنا ؛ يجمعون أصوله ، ويثبتون قواعده ، ويرفعون بنيانه شامخا ، ركينا ، فى إخلاص نادر ، وصبر لا ينفد. ولقد كان الزمان يجرى عليهم بما يجرى على غيرهم ؛ من مرض ، وضعف ، وفقر ؛ فلا يقدر على انتزاعهم مما هم فيه ، كما كان يقدر على سواهم ، ولا ينجح فى إغرائهم بمباهج الحياة كما كان ينجح فى إغراء ضعاف العزائم ، ومرضى النفوس ، من طلاب المغانم ، ورواد المطامع. ولقد يترقبهم أولياؤهم وأهلوهم الساعات الطوال ، بل قد يترصدهم الموت ؛ فلا يقع عليهم إلا فى حلقة درس ، أو قاعة بحث ، أو جلسة تأليف ، أو ميدان مناظرة ، أو رحلة مخطرة فى طلب النحو. وهو حين يظفر بهم لا ينتزع علمهم معهم ؛ ولا يذهب بآثارهم بذهاب أرواحهم ؛ إذ كانوا يعدون لهذا اليوم عدته من قبل ؛ فيدونون بحوثهم ، ويسجلون قواعدهم ، ويختارون خلفاء من تلاميذهم ؛ يهيئونهم لهذا الأمر العظيم. ويشرفون على تنشئتهم ، وتعهد مواهبهم ؛ إشراف الأستاذ البارع القدير على التلميذ الوفىّ الأمين. حتى إذا جاء أجلهم ودّعوا الدنيا بنفس مطمئنة ، واثقة أن ميدان الإنشاء والتعمير النحوى لم يخل من فرسانه ، وأنهم خلّفوا وراءهم خلفا صالحا يسير على الدرب ، ويحتذى المثال. وربما كان أسعد حظّا وأوفر نجحا من سابقيه ، وأسرع إدراكا لما لم يدركه الأوائل.
على هذا النهج الرفيع تعاقبت طوائف النحاة ، وتوالت زمرهم فى ميدانه ، وتلقى الراية نابغ عن نابغ ، وألمعىّ فى إثر ألمعىّ ، وتسابقوا مخلصين دائبين. فرادى وزرافات ، فى إقامة صرحه ، وتشييد أركانه ، فأقاموه سامق البناء ، وطيد الدعامة ، مكين الأساس. حتى وصل إلى أهل العصور الحديثة التى يسمونها : عصور النهضة ، راسخا ، قويّا ؛ من فرط ما اعتنى به الأسلاف ، ووجهوا إليه من بالغ الرعاية ؛ فاستحقوا منا عظيم التقدير ، وخالد الثناء. وحملوا كثيرا من علماء
__________________
(١) صبح الأعشى.