العمري فتخطّى رقاب الناس حتّى اتكأ على متكئي ، فاغتظت من ذلك ، ولم يزل قاعدا لا يبرح والناس يدخلون ويخرجون ، وأنا أزداد غيظا فلمّا تصرّم المجلس دنا لي وقال بيني وبينك سرّ فاسمعه. فقلت : قل. فقال : صاحب الشهباء والنهر يقول : قد وفينا بما وعدنا. فذكرت الحديث وارتعشت من ذلك وقلت : السمع والطاعة ، فقمت وأخذت بيده وفتحت الخزائن ، فلم يزل يخمسها إلى أن خمّس شيئا قد كنت أنسيته ممّا كنت قد جمعته وانصرف ، ولم أشكّ بعد ذلك وتحقّقت الأمر ، فأنا منذ سمعت هذا من عمّي أبي عبد الله زال ما كان اعترضني من شكّ (١).
المعجزة الثانية : في كشف الغمّة عن أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه قال : لمّا وصلت بغداد في سنة سبع وثلاثين للحجّ ، وهي السنة التي ردّ القرامطة فيها الحجر إلى مكانه من البيت ، كان أكبر همّي بمن ينصب الحجر لأنّي مضى عليّ في أثناء الكتب قصّة أخذه وأنّه ينصبه في مكانه الحجّة في الزمان ، كما في زمن الحجّاج وضعه زين العابدين في مكانه فاستقرّ ، فاعتللت علّة صعبة خفت فيها على نفسي ولم يتهيأ لي ما قصدت له فاستنبت المعروف بابن هشام ، وأعطيته رقعة مختومة أسأل فيها عن مدّة عمري وهل تكون المنية في هذه العلّة أم لا ، وقلت : همّي إيصال هذه الرقعة إلى واضع الحجر في مكانه وأخذ جوابه وإنّما أندبك لهذا ، فقال المعروف بابن هشام : لما حصلت بمكّة وعزم على إعادة الحجر بذلت لسدنة البيت جملة تمكّنت معها من الكون بحيث أرى واضع الحجر في مكانه ، فأقمت معي منهم من يمنع عنّي ازدحام الناس ، فكلّما عمد إنسان لوضعه اضطرب ولم يستقم ، فأقبل غلام أسمر اللون حسن الوجه فتناوله ووضعه في مكانه ، فاستقام كأنّه لم يزل عنه ، وعلت لذلك الأصوات فانصرف خارجا من الباب فنهضت من مكاني أتبعه وأدفع الناس عنّي يمينا وشمالا حتّى ظنّ بي الاختلاط في العقل ، والناس يفرجون لي ، وعيني لا تفارقه حتّى انقطع عنّي الناس وكنت أسرع الشدّة خلفه وهو يمشي على تؤدة ولا ادركه ، فلمّا حصل بحيث لا يراه أحد غيري وقف والتفت إلي فقال : هات ما معك فناولته الرقعة ، فقال من غير أن ينظر فيها : قل له لا خوف عليك في هذه العلّة ، ويكون ما لا بدّ منه بعد ثلاثين سنة. قال : فوقع علي الزمع حتّى لم أطق حراكا وتركني وانصرف.
__________________
(١) كشف الغمّة : ٢ / ٥٠١ الباب ٢٥.