على أنه مراد به : لا يحفظونه ، فحذف لا. وعلى هذا التأويل في من تكون متعلقة ـ كما ذكرنا ـ بيحفظونه ، وهي في موضع نصب. وقال الفراء وجماعة : في الكلام تقديم وتأخير أي : له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه. وروي هذا عن مجاهد ، والنخعي ، وابن جريج ، فيكون من أمر الله في موضع رفع لأنه صفة لمرفوع ، ويتعلق إذ ذاك بمحذوف أي : كائنة من أمر الله تعالى ، ولا يحتاج في هذا المعنى إلى تقدير تقديم وتأخير ، بل وصفت المعقبات بثلاث صفات في الظاهر : أحدها : من بين يديه ومن خلفه أي : كائنة من بين يديه. والثانية : يحفظونه أي : حافظات له. والثالثة : كونها من أمر الله ، وإن جعلنا من بين يديه ومن خلفه يتعلق بقوله : يحفظونه ، فيكون إذ ذاك معقبات وصفت بصفتين : إحداهما : يحفظونه من بين يديه ومن خلفه. والثانية : قوله : من أمر الله أي : كائنة من أمر الله. غاية ما في ذلك أنه بدىء بالوصف بالجملة قبل الوصف بالجار والمجرور ، وذلك شائع فصيح ، وكان الوصف بالجملة الدالة على الديمومة في الحفظ آكد ، فلذلك قدم الوصف بها. وذكر أبو عبد الله الرازي في الملائكة الموكلين علينا ، وفي الكتبة منهم أقوالا عن المنجمين وأصحاب الطلسمات ، وناس سماهم حكماء الإسلام يوقف على ذلك من تفسيره. ولما ذكر تعالى إحاطة علمه بخفايا الأشياء وجلاياها ، وأن الملائكة تعقب على المكلفين لضبط ما يصدر منهم ، وإن كان الصادر منهم خيرا وشرا ، ذكر تعالى أن ما خولهم فيه من النعم وأسبغ عليهم من الإحسان لا يزيله عنهم إلى الانتقام منهم إلا بكفر تلك النعم ، وإهمال أمره بالطاعة ، واستبدالها بالمعصية. فكان في ذكر ذلك تنبيه على لزوم الطاعة ، وتحذير لوبال المعصية. والظاهر أن لا يقع تغير النعم بقوم حتى يقع تغيير منهم بالمعاصي. قال ابن عطية : وهذا الموضع مؤول ، لأنه صح الخبر بما قدرت الشريعة من أخذ العامة بذنوب الخاصة وبالعكس ، ومنه قوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَ) (١) الآية. وسؤالهم للرسول صلىاللهعليهوسلم : أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : «نعم إذا كثر الخبث في أشياء كثيرة» فمعنى الآية : حتى يقع تغيير إما منهم ، وإما من الناظر لهم ، أو ممن هو منهم تسبب ، كما غير الله تعالى المنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة ما بأنفسهم ، إلى غير هذا في أمثله الشريعة. فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب ، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير. وثم أيضا مصائب يزيد الله بها أجر
__________________
(١) سورة الأنفال : ٨ / ٢٥.