على الحق لا على (ما) لا على مذهب الأخفش حيث زعم أن (ما) المصدرية اسم لا حرف ، ولا ضرورة تدعو إلى كونها مصدرية.
(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) لما هددهم وأوعدهم على إعراضهم وتكذيبهم واستهزائهم ، أتبع ذلك بما يجري مجرى الموعظة والنصيحة ، وحض على الاعتبار بالقرون الماضية و (يَرَوْا) هنا بمعنى يعلموا ، لأنهم لم يبصروا هلاك القرون السالفة و (كَمْ) في موضع المفعول ب (أَهْلَكْنا) و (يَرَوْا) معلقة والجملة في موضع مفعولها ، و (مِنْ) الأولى لابتداء الغاية و (مِنْ) الثانية للتبعيض ، والمفرد بعدها واقع موقع الجمع ووهم الحوفي في جعله (مِنْ) الثانية بدلا من الأولى وظاهر الإهلاك أنه حقيقة ، كما أهلك قوم نوح وعادا وثمود غيرهم ويحتمل أن يكون معنويا بالمسخ قردة وخنازير ، والضمير في (يَرَوْا) عائد على من سبق من المكذبين المستهزئين و (لَكُمْ) خطاب لهم فهو التفات ، والمعنى أن القرون المهلكة أعطوا من البسطة في الدنيا والسعة في الأموال ما لم يعط هؤلاء الذين حضوا على الاعتبار بالأمم السالفة وما جرى لهم ، وفي هذا الالتفات تعريض بقلة تمكين هؤلاء ونقصهم عن أحوال من سبق ، ومع تمكين أولئك في الأرض فقد حل بهم الهلاك ، فكيف لا يحل بكم على قلتكم وضيق خطتكم؟ فالهلاك إليكم أسرع من الهلاك إليهم. وقال ابن عطية : والمخاطبة في (لَكُمْ) هي للمؤمنين ولجميع المعاصرين لهم وسائر الناس كافة ، كأنه قال : (ما لَمْ نُمَكِّنْ) يا أهل هذا العصر لكم ويحتمل أن يقدر معنى القول لهؤلاء الكفرة ، كأنه قال يا محمد قل لهم ا لم يروا كم أهلكنا (١) الآية. وإذا أخبرت أنك قلت لو قيل له أو أمرت أن يقال له فلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها ، فتجيء بلفظ المخاطبة ، ولك أن تأتي بالمعنى في الألفاظ ذكر غائب دون مخاطبة ، انتهى. فتقول : قلت لزيد ما أكرمك وقلت لزيد ما أكرمه ، والضمير في (مَكَّنَّاهُمْ) عائد على (كَمْ) مراعاة لمعناها ، لأن معناها جمع والمراد بها الأمم. وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يعود على (قَرْنٍ) وذلك ضعيف لأن (مِنْ قَرْنٍ) تمييز (لَكُمْ) فكم هي المحدث عنها بالإهلاك فتكون هي المحدث عنها بالتمكين ، فما بعده إذ (مِنْ قَرْنٍ) جرى مجرى التبيين ولم يحدث عنه.
__________________
(١) سورة الأنعام : ٦ / ٦.