أر آثار الجراح إلا على ظهورهم ، ومثل هذا رأيته عند أهل النوبة جميعا. فلم ألق منهم رجلا يحمل ندوبا على صدره ، أما ظهور أكثرهم فتحمل ندوبا كبيرة يبدو أنهم فخورون بها. ويقال إن الدرق يدرأ عن جنوبهم الطعنات. ووجدت عندهم عادة كنت فى رحلتى إلى دنقلة قد سمعت بوجودها بين البشاريين ، ذلك أنه إذا ازدهى شاب آخر ببسالته الفائقة ، استل هذا مدية فطعن بها ذراعيه وكتفيه وجنبيه ، ثم أعطاها لذلك التياه الفخور بشجاعته ، فيضطر هذا ـ نزولا على قواعد الشرف عندهم ـ إلى طعن جسمه طعنات أغور من طعنات صاحبه ، فإن لم يفعل كان لغريمه قصب السبق. وما من شك فى أن القوم أشداء لا تدانيهم فى قوة البأس وصلابة العود قبيلة ممن عرفت من البدو. ويكاد غذاؤهم فى الشتاء يقتصر على اللحم واللبن ، أما الخبز فلا يصببون منه إلّا أقله ، وإلى هذا يعزون قوتهم. ولا يروّعهم من الأمراض سوى الجدرى ، وقد اجتاح قبيلتهم فى العام الماضى ولم يفارقهم بعد تماما ، فما زال مضرب من المضارب القريبة موبوءا به ، لذلك قطعت المواصلات بينه وبين سائر المضارب المحيطة به. وأول من جلب المرض إلى هنا التجار السواكنية ، ثم انتشر من هذا الإقليم إلى سائر بلاد النيل.
وعلى أطراف الصحراء قرية تدعى سوق الهدندوة (ويستعمل الأهالى فى لغتهم كلمة «سوق» العربية) ، وتقع على ربع ساعة من دوّارنا ، وهى مقر الشيخ الأكبر لهدندوة التاكة. وفى كل أسبوع تقام على الرمال المنبسطة خلف القرية سوق يؤمها العدد الغفير من البدو والريفيين. وقد زرتها مرتين فكنت بين الوافدين عليها مبعث دهشة بالغة ومصدر تسلية كبيرة لما رأوا فى منظرى من غرابة وطرافة. على أننى كنت على الدوام أثير فى النساء من الاحتقار والتقزز أكثر مما أثيره فى الرجال. ورافقنى إلى هذه السوق مساكنىّ من التجار السود فبعنا فيها سلعا مختلفة جلبناها من شندى وتقاضينا ثمنها ذرة ، وهى العملة المتداولة هنا. وقل أن تجد فى التاكة بدوا يرضون بالريال عملة ، ولكن الطلب شديد على الدمور. وقد