على مقربة من النهر. وأنفقنا فى هذا ثلاث ساعات حططنا بعدها على شاطىء رملى قرب النهر رأيت على أرضه هياكل عظمية لتماسيح متوسطة الطول. واستوت الأرض أمام ناظرى فلم يبد فيها أثر لتل ولا لنجد ، فأنى سرحت الطرف وجدت الأفق منبسطا لا نشز فيه. والإقليم سهل مستو على يمين النهر ويساره. وكانت الجرذان الكثيرة تعدو بين قوائم الإبل فى كل خطوة تخطوها ، والعبيد يلهون بصيدها اليوم كله. ومن هذا الموضع اتخذنا طريقا مستقيما مخلفين النهر إلى يميننا ، وسرنا فوق سهل محصب رملى متجهين جنوبا ثم عدنا إلى النهر ثانية بعد رحلة عشر ساعات فى يومنا هذا.
أول يونيو ـ مضينا نتبع مجرى النهر. وتحفل الضفتان بالشجر ، والإقليم ملك لبنى كرب ، وأرضه خصبة ولكن لا يبدو عليها أثر لزراعة ، ويظهر أن سكان الحلل أو المضارب لا يعرفون لهم صناعة غير الرعى. وقد قدرت عرض النهر فى إحدى بقاعه ـ حين دنونا منه ـ بمسيرة عشر دقائق تقريبا. وبعد أربع ساعات مررنا بأم داود ، وهى مضرب كبير من مضارب قبيلة العقاب إحدى قبائل البشارية ، وهذا أقصى حدود أملاك البشاريين جنوبا وبداية أملاك الهدندوة ، وهم قبيلة ذات بأس سأعود إلى ذكرها. وكان ابن شيخهم راجعا معنا من شندى ، لذلك لم يكن هناك ما يثير مخاوفنا منهم اللهم إلا أن نخشى لصوصيتهم. وحطت القافلة قرب القرية فسرت إلى الأكواخ متطلعا ، وأثار مظهرى بين القوم صيحة دهشة ورعب ـ وهو ما كان يثيره على الدوام فى هذه البلاد ـ لا سيما بين النساء اللائى اشتد بهن الفزع حين رأين رجلا ممن لفظتهم الطبيعة ـ أعنى البيض ـ يتطلع داخل أكواخهن ويسألهن بعض الماء أو اللبن. ووضح لى أن أول شعور يبعثه منظرى فى القوم هو شعور التقزز والاشمئزاز ، فالزنوج يؤمنون إيمانا راسخا بأن بياض البشرة أثر من آثار المرض وعلامة من علامات الضعف ، وما من شك فى أنهم ينظرون إلى الرجل الأبيض نظرتهم إلى مخلوق أدنى منهم وأحط شأنا. وأهل شندى أكثر تعودا ، إن لم يكن على رؤية البيض ، فعلى رؤية عرب شبه الجزيرة السمر. ولما كانت بشرتى قد لوحتها الشمس فإنى لم أكن أثير بينهم كبير دهشة.