وأما قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) [سورة النحل ، الآية : ٤٨] الآية فقوله : من شيء من دخلت للتّبيين كدخولها مع المعرفة في قوله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [سورة الحج ، الآية : ٣٠] والمعنى من شيء له ظلّ كالشّخوص ، ومن هذه قد تجيء مع النّكرة فتلزم ولا تحذف تقول : من ضربك من رجل وامرأة فاضربه. هذا في الجزاء كقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) وإنّما كرهوا حذف من لأنهم خافوا أن يلتبس الكلام بالحال إذا قلت إلى ما خلق الله شيئا ، ومعنى الحال هاهنا بعيد فألزموه من ليعلم به أنه تفسير وتبيين لما قد وقع غير مؤقت يكشف هذا أنّك لو قلت : لله درّه من رجل ، جاز أن يقول : لله دره رجلا ، ومن رجال فإنك قد أمنت الالتباس بالحال إذا لم يكن ذلك موضعه.
فأما قولك : لله درك قائما ، فإنّما جاز سقوط (من) لأنّ الذي قبله مؤقت فلم يبال التباسه بالحال ، قوله تعالى : (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) [سورة النحل ، الآية: ٤٨] معناه ما قدّمته في بيان قوله تعالى : (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) [سورة الفرقان ، الآية : ٤٥] وكشفه أن جميع ما خلقه عزوجل ظلّه يدور معه ويمتدّ لا ينفك منه حتى لو رام انسلاله من دونه لما قدر عليه يصحبه مقبلا ومدبرا ، وكيف مال زائدا عليه وناقصا منه ليذكره عجزه ، ويصوّر له أنه على تصرفه المتين في لزام أضعف قرين وذلك تفيؤه أي ترجعه يمنة ويسرة ومتنعلا من تحت ، ومعتليا من فوق على حسب اختلاف الأحوال ، فيكون للأشخاص فيء عن اليمين والشمائل إذا كانت الشّمس على يمين الشخص ، كان الفيء عن شماله ، وإذا كانت على شماله كان الفيء عن يمينه ، وقيل : أول النّهار عن يمين القبلة ، وفي آخره عن شمال القبلة ، ومعنى قوله : (سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) [سورة النحل ، الآية : ٤٨] انها بآثار الصّنعة فيها خاضعة لله تعالى ، وذكر السّجود قد جاء في هذا المعنى في غير هذا الموضع قال : (غلب سواجد لم يدخل بها الحصر) ، وقال آخر :
بجمع تضلّ البلق في حجراته |
|
ترى الأكم فيها سجّدا للحوافر |
والمراد الاستسلام بالتسخير والانقياد.
فأما قوله تعالى : (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ) [سورة الكهف ، الآية : ١٧] بعد أن قال : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) [سورة الكهف ، الآية : ١١] فمعنى ضربنا على آذانهم أي أمتناهم ، ومنعناهم الإدراك ، ويقال في الجارحة : إذا أبطلتها ضربت عليها ، وفي الممنوع عن التصرف في شيء ضربت على يده ، ومعنى تزاور ، وتزور تنحرف عنهم ، أي تطلع على كهفهم ذات اليمين ولا تصيبهم ، والعرب تقول : قرضته ذات اليمين ، وقرضته ذات الشمال ، وقرضته قبلا وقرضته دبرا ، وحذوته ذات اليمين وذات الشمال ، أي كنت بحذائه من كلّ ناحية ، وأصل القرض القطع ـ أي تعدل عنهم وتتركهم.