أن يراعي دليله. بينما كنت أنا بعكس ذلك ، فلا يمر يوم دون أن أنفح هذا الدليل بشيء ما. ولما كنا على رمية بندقية من عانة التقينا بشيخ طيب النفس ، أقبل إلي وأخذ بلجام حصاني وقال : «أيها الصديق ، هلمّ واغسل قدميك ، وكل خبزا في بيتي ، فإنك رجل غريب ، وبما أني لقيتك في الطريق فلا ترفضن هذا الطلب الذي أرجوه منك». إن دعوة هذا الشيخ لتشبه عادة الناس في الأزمنة القديمة ، التي قرأنا أمثلة عديدة عليها في الأسفار المقدسة. ولم يكن منا إلا تلبية طلبه. فلما صرنا إلى بيته ألفيناه قد أعد لنا وليمة فاخرة ، إذ ذبح لنا خروفا ودجاجا ، كما أنه قدم لخيلنا علفا. لقد كان هذا الشيخ من سكان عانة ، وهو يقيم عند النهر الذي كان علينا عبوره لنراجع الحاكم في أمر جوازاتنا (١) التي دفعنا عن كل منها قرشين. ومكثنا في دار على مقربة من باب المدينة واشترينا ما نحتاج إليه من طعام لنا ولخيلنا. وكانت لصاحبة الدار طفلة في التاسعة من عمرها ، استهوتني بمرحها ، فأهديت إليها منديلين من نسيج قالقوط المبرقش ، فأرتهما الطفلة أمها ، فأبت الأم حينذاك ، أن تأخذ منا ثمن الطعام الذي أعطتنا إياه ، بعد أن كنا قد اتفقنا عل ثمنه.
وعلى نحو خمسمائة خطوة من باب مدينة عانة ، مررنا بشاب من أسرة كريمة ، يرافقه خادمان ، وكان راكبا حمارا مؤخرته مخضبة بالحناء. فدنا مني مسلّما ، ثم قال : أمن الممكن أن ألاقي غريبا وليس عندي ما أهديه إليه؟ لذلك حاول أن يأخذنا معه إلى بيته في الريف ، بيد أننا أصررنا على المضي في طريقنا ، فألح علي حينذاك أن أقبل غليونه دون أن يلتفت إلى اعتذاري عن قبوله منه بكوني لا أدخن. فما كان لي إلا أن أقبله! وعلى نحو ثلاثة فراسخ من عانة ، بينما كنا ذاهبين لنأكل بين أخربة بيوت ومفكرين بالمكوث هناك حتى منتصف الليل ، أبصرنا أعرابيين جاءا من لدن الأمير ، ليخبرانا بأن عنده رسائل يبغي تسليمها لنا لإيصالها إلى باشا حلب. فعدنا أدراجنا إلى عانة إذ لم يكن
__________________
(١) جوازات السفر (الباسبورت) أمر كان معروفا منذ القدم. راجع مقال : أجوزة السفر في العصور الإسلامية لميخائيل عواد (مجلة الرابطة [١٩٤٤] العدد ٧ ، ص ١٦٥.
١٦٨).