(٣)
* لقد استمرّ المسجد النبوي في أداء رسالته العلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين ، ولقد كان مرد تلك الاستمرارية إلى طبيعة الأجواء الفكرية والعلمية التي يتمتع بها مجتمع المدينة والتي عرف بها على مر العصور الإسلامية. ولا شك في استفادة مجتمع المدينة العلمي من هجرة العلماء الأفذاذ الذين استقر ببعضهم المقام في الأرض الطيبة ، بينما بقي البعض لفترة معينة من الزمن وفي كلتا الحالتين فإن هذه الهجرة كان لها آثارها الواضحة في إمداد المجتمع بإشعاعات العلم والمعرفة. وفي تثبيت دعائم الفكر الإسلامي بين طبقات الناس المختلفة.
* لقد جاور بالمدينة علماء أفذاذ ، وكانوا على قدم راسخة في علوم الشريعة واللغة العربية. ومن هؤلاء الأعلام ، الشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطى ١٢٤٥ ـ ١٣٢٢ ه. وهو العالم الذي انتدبته الدولة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني إلى باريس ، ولندن ، والأندلس ، للاطلاع على ما في خزائنها من الكتب العربية النادرة ، وتقييد أسماء ما يوجد منها بخزائن القسطنطينية لتستنسخ ، فسافر على باخرة خاصة ، وكان ينزل حيثما حل دور السفارات ولكن المشروع أهمل بعد عودته.
* وفي عام ١٣٠٦ ه أرسل ملك السويد والنرويج أوسكار الثاني إلى السلطان عبد الحميد ، مبديا رغبته في أن يقوم الشيخ التركزي ـ نفسه ـ بحضور مؤتمر المستشرقين الثامن المنعقد في مدينة استكهولم ولقد قام سفير السويد بمصر في ذلك الوقت ، الكونت كارلو دى لندبرج بالإشراف على متطلبات الرحلة ، حيث اشترط الشنقيطي عدة شروط قبيل القيام برحلته منها أن يكون توجهه بصفة ترفع الإسلام وأهله ، وبأن ينتخب ثلاثة أو أربعة من أهل العلم بالعربية ، ويستصحب مؤذنا وطهاة مسلمين. كما طلب السفير المذكور أن يقوم الشنقيطي بإنشاء قصيدة على أسلوب شعر العرب السابقين لا على أسلوب الشعراء في تلك الحقبة. ولقد قام الشنقيطي بإنشاء القصيدة المطلوبة والتي قاربت حوالي مائتي بيت من الشعر الرصين ولكن