أما سبب تسمية مصر أم الدنيا فهو أنه إذا وقع القحط فى جميع بلاد الدنيا فإن مصر قادرة على إطعام هذه الدنيا. لقد منحها الله هذه الخيرات والبركات ؛ ولكن إذا أقحطت مصر يوما ـ لا قدر الله ـ فمحصول ألف بلد بل محاصيل الدنيا بأسرها لا تكفيها يوما ولا تحقق الرخاء فيها لأن مصر بحر من الناس. فقد قدمت عام ١٠٨٢ وبينما كنت أتجول فى مدينة مصر مات فيها ثمانمائة ألف إنسان بالطاعون وهذا مقيد فى سجلات المذاهب الأربعة حتى إن إبراهيم باشا باع قرية خالية فى شهرين لتسعة رجال كل قرية بعشرين كيسا ومع ذلك أصبحت خالية مرة أخرى وبينما كانت كذلك كان يستحيل المرور فى أسواقها لشدة ازدحامها. وما كان فى مصر من دواب مثل الحصان والبغل والجمل والعجل والجاموس والشاة والعنزة كانت تمر قطعانا قطعانا فى الأسواق ، وقد كثرت الحمير فى القاهرة ولا ينقطع نهيقها فى جميع جنبات شوارعها ويقول الحمّارة «طريق يا سيدى طريق» ويسمون البله من الترك بالحمار ، وفى مصر أول ابتهال فى مقام السيكا نهيق الحمار فإذا ما نهق الحمار مرة. «إن أنكر الأصوات لصوت الحمير» وفى منتصف الليل إذا ما نهق الحمار فى حظيرته ساعتين متعاقبتين والعظمة لله اضطرب الناس وانزعجوا ظنا منهم أن الوقت حان لخروج الدجال وهو من علامات الساعة ، فجميع أعيان وأشراف ونساء مصر يركبون الحمير وهم فرسان الحمير فإذا ما وصل النساء إلى الأوزبكية والصليبة ومصر القديمة وبولاق وقايتباى لعبن الجريد وهن على حمير سروجها منفضة ومزركشة قائلين «هسك» وتنزهن على ظهور الحمير وليس هذا ما يعيب الناس فى مصر لأن كل تنقلاتهم بها. وكان لعلى بك الجرجاوى أربعين ألف حمار ، فكان يشترى لها غلالا بعشرات البارات ، وهذا عنه فى مصر مشهور.
كما أن لأمير الحاج رضوان بك أربعين ألف جمل ، والآن لا يمر فى مصر جمال ولا حمير تحمل الماء ، وفى مصر اثنا عشر عيدا فى العام وسوف نتحدث عنها فى موضعها ، وفى هذه الأيام لا يمكن المرور فى الأسواق لازدحامها بالناس والحمّارة والجمّالة.