كان جوادا سمحا عادلا ، قريبا من الناس ، رحوم القلب ، متصدقا سرا وجهرا ، عمر المدرسة المستنصرية وقفها على المذاهب الأربعة ، وأوقف عليها الأوقاف الكثيرة ، ونقل إليها الخطوط المنسوبة مثل خط ابن البواب ، وابن مقلة وغيرهما ، ورتب للفقهاء جميع ما يحتاجون إليه من الأطعمة ، والأشربة ، والجوامك ، والفواكه في ناحيتها حتى المارستان ، والحمام فيها ، ولم يكن عنده تعصب على مذهب ، وليس في الدنيا مثل هذه المدرسة ولا بني مثلها في سالف الأعوام ، فهي في العراق كجامع دمشق وقبة الصخرة بالشام ، وبنى المساجد ، والمشاهد ، وعمر الخانات في الطرقات ، وكان يزور الصالحين ، ويحسن إليهم ويتفقدهم ، ويبرهم ، ويزور المشهدين : مشهد علي عليهالسلام ، ومشهد الحسين ، ويحسن على العلويين وينعم على المجاورين ، ولم يكن للمال عنده قدر ، ولما وردت بغداد في سنة أربع وأربعين وستمائة ، حكى لي الثقات عنه أنه له الأحوال الجليلة ، منها أنه كان يزور الشيخ عبد العزيز الناسخ بالحريم الطاهري ، ويغشاه كثيرا ، فقال له يوما : أنا لا أثاب على ما أفعله ، فقال له عبد العزيز : الله الله يا مولانا إذا لم تثاب أنت فمن يثاب؟ فقال : لأن المال الذي أنفقه في أبواب البر ما له عندي قدر ، بل مثل التراب ، والثواب إنما يكون على قدر المشقة.
ومنها أنه كان يمضي إلى العلث ، قرية من الدجيل بينها وبين بغداد مسيرة يومين ، حتى يزور اسحاق العلثي الحنبلي.
ومنها أنه لما كان الناصر في الحياة ، كان قد بنى عنده في الدار بركة للمال ، فكان يقول : ترى أعيش حتى أملأها ، فلما ولي المستنصر وقف عليها وقال : ترى أعيش حتى أفرغها.
ومنها أنه ركب يوما للصيد في رمضان ، فاجتاز بين الحربية ودار القز محلتين بالجانب الغربي من بغداد ، فرأى شيخا كبيرا مع قدح فيه طبيخ قد أخذه من العتابين ، وهو يريد يدخل الحربية ، وكان في كل محلة دار