كوفية ، وعند رأسه صينية أسبادوره (١) فيها تراب ، فقلت لكريم الدين : ما هذه؟ قال : يتيمم لكل صلاة ، وكان المعظم يقول : والله ما فاتني صلاة قط ، قال كريم الدين : بات الليلة التي مات في صبيحتها ساهرا ، فطفت عينه قبل الفجر ، وكان قد قام قياما عظيما ، ففتح عينيه وقد كادت الشمس أن تطلع ، ولم يقدر أن يتيمم فصلى بالإيماء ، وكان دائما يقول : ما أظن يدخل ملك إلى الجنة ، ويقول : الموت خير من الحياة ، والحاجة إلى الناس ، ويقول : وقد صح عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لا يجتمع غبار في سبيل الله ، ودخان جهنم في منخري عبد أبدا ، وكم في منخري من تراب في سبيل الله.
وتوفي في ثالث ساعة من نهار الجمعة أول يوم من ذي الحجة ، وغسله النجم خليل ، وكريم الدين يصب عليه ، وكان قد أوصى أن لا يدفن في القلعة ، ويخرج إلى الميدان بقاسيون فيدفن على باب تربة والدته تحت الشجرة ، فلم تنفذ وصيته ودفن في القلعة ثم أخرج بعد ذلك بمدة لما ملك الأشرف دمشق على حال غير مرضي بين يديه نصف شمعة والعزز خليل معه ، وبلغني أن الحمالين طلبوا ما يربطوه به على النعش ، فقيل لأحدهم : اربطه بعمامتك ، ودفن مع والدته في التربة عند الباب ، وفيها أخوه المغيث.
وعملنا له العزاء ثلاثة أيام في جامع دمشق ، وجرى على الرعية في وفاته ما لم يجر على غيرهم عند موت أحد من الملوك ، رأيت بنات البيوت اللاتي لم يخرجن قط من خدورهن من أوائل الليل ، يأتين إلى تحت القلعة ، وقد شققن ثيابهن ، ونشرن شعورهن ، ومعهن الدرادكة فليطمن عليه ، ثم يمشين في الأسواق ، ويلطمن إلى الصباح أقمن على ذلك شهرا ، وكذلك في الميادين طول النهار.
__________________
(١) أي سفيدرو وهو خلط من النحاس والقلعي.