وكان في أيام الفسخ مع الفرنج يرتب النيران على الجبال من باب نابلس إلى عكا ، وعلى عكا جبل قريب منها يقال له الكرمل ، كان عليه المنورون ، وبينهم وبين الجواسيس علامات ، وكان له في عكا أصحاب أخبار ، وأكثرهم نساء الخيالة ، فكانت طاقاتهم في قبالة الكرمل ، فإذا عزم الفرنج على الغارة فتحت المرأة الطاقة ، فإن كان يخرج مائة فارس أوقدت المرأة شمعة واحدة ، وإن كانوا متئتين شمعتين ، وإن كانوا يريدون حوران أو ناحية دمشق ، أشارت إلى تلك الناحية ، وكذا إلى نابلس ، فكان قد ضيق على الفرنج الطرق ، وكان يعطي النساء والجواسيس في كل فسخ جملة كثيرة ، فقلت له في بعض الأيام : هذا إسراف في بيوت الأموال ، فقال : أنا أستفتيك لما عزم الإنبروز على الخروج إلى الشام ، أراد أن ينزل عكا بغتة ، ويسير إلى باب دمشق ، فبعث فارسا عظيما ، وقال : أخف مجيئنا إلى البلاد لغير بغتة ، وكان بعكا امرأة مستحسنة ، فكتبت إليّ تخبرني ، فبعثت لها ثيابا ملونة وعنبرا ، ومقانع حرير فلبستها ، واجتمعت بالفارس فدهش وقال : من أين هذا؟ قالت : من عند صديق لنا من المسلمين ، فقال : من هو؟ فقالت : الكريدي ، فصلب على وجهه ، وقام فخرج من عندها ، قال : فما زالت تلك المرأة تتلطف بالفارس وتهاديه حتى صارت كتب الإنبروز تجيء إليه مختومة فيبعثها إليه ، ويقول له : تكتب ما تريد ، فلو لم أدار عن المسلمين ، فلو جاء الإنبروز ، وساق إلى أهل الشام ، ومواشيهم وأموالهم ما لا يعد ولا يحصى ، فأنا أفدي المسلمين بالشيء اليسير ، وأحفظ الخطير بالحقير.
وكان المعظم قد أمر الفقهاء أن يجردوا له مذهب أبي حنيفة ، دون صاحبيه ، فجردوا له المذهب في عشر مجلدات ، وسماه التذكرة ، فكان لا يفارقه سفرا ولا حضرا ، يطالعه دائما ، فكتب على ظهر كل مجلدة : أنهاه حفظا عيسى بن أبي بكر بن أيوب ، فقلت له : ربما يؤخذ هذا عليك ، لأن أكبر مدرس في الشام يحفظ القدوري مع تفرغه ، وأنت مشغول بتدبير