تبكي طوال الليل ، فقال لها الفرنج : إن السلطان رحيم القلب فاذهبي إليه ، فجاءته وهو على تل الخروبة راكب ، فعفرت وجهها وبكت فسأل عنها ، فأخبروه بقصتها فرق لها ودمعت عيناه ، وتقدم إلى مقدم اللصوص بإحضار الطفل ، ولم يزل واقفا حتى أحضره ، فلما رأته بكت وأخذته وأرضعته ساعة ، وضمته إليها ، وأشارت إلى ناحية الفرنج ، فأمر أن تحمل على فرس وتلحق بالفرنج ففعلوا.
وقال : وكان حسن العشرة ، طيب الخلق ، حافظا لأنساب العرب ، عارفا بخيولهم ، طاهر اللسان ، والقلم ، فما شتم أحد قط ، ولا كتب بيده ما فيه أذى مسلم ، وما حضر بين يديه يتيم إلا ويترحم على مخلفه وجبر قلبه وأعطاه ما يكفيه ، فإن كان له كافل وإلا كفله ، وسرق من خزانته يوما ألفا دينار ، وجعل في الكيسين فلوس فما قال شيئا ، وذكر القاضي من مناقبه وسطر من فضائله ما زين به التواريخ والسير.
قلت : حكى لي المبارز سنقر الحلبي قال : كان الحجاب يزدحمون على طراحته فجاء سنقر الخلاطي ، ومعه قصص فقدم له قصة ، وكان السلطان قد مد يده اليمنى على الأرض ليستريح ، فداسها سنقر الخلاطي ، ولم يعلم ، وقال له : علم عليها فلم يجبه ، فكرر عليه القول ، فقال له : يا طواشي أعلم بيدي أو برجلي؟ فنظر سنقر فرأى يد السلطان تحت رجله فخجل وتعجب الحاضرون من هذا الحلم ، ثم قال السلطان : هات القصة فعلم عليها ، وما زال السلطان على هذه الأخلاق حتى توفاه الله تعالى إلى مقر رحمته ورضوانه.
ولما كان السادس عشر من صفر وجد كسلا ، وحم حمى صفراوية ، وكان قد ركب فالتقى الحاج ، فركب وبكى ، وتأسف حيث لم يكن معهم ، وأصبح يوم السبت والحمى بحالها ، وتزايد به المرض حتى ضعف ، وأجمع الأطباء على أنه لا يفصد فخالفهم الرحبي وفصده ، فكان سبب وفاته ، وحجب عن الرجال ، وتولاه النساء وأحضر الأفضل