وحكى شيخنا تاج الدين الكندي ، رحمهالله ، قال : ما تبسم نور الدين إلا نادرا ، وحكى لي جماعة من المحدثين انهم قرأوا عليه حديث التبسم ، وكان يرويه فقالوا له : تبسم : فقال : لا أتبسم من غير عجب.
وحدثني رجل من أهل حران قال : خرج يوما نور الدين من حران قاصدا إلى الرها ، فاجتاز على نهر وفقير نائم على جنب النهر فوقف وسلم عليه ، فرفع اصبعا واحدة ، فحرك الفقير اصبعين ، ومضى نور الدين باكيا ، فقيل له : ما هذا؟ قال : أشار الفقير إلي ، وقال : في أي شيء أنت ، هذا كله لماذا؟ فقلت : من أجل رغيف واحد ، فأشار إلي باصبعيه فأنا آكل كل يوم رغيفين وأنا مثلك ، وذكر الأستاذ الجزري في تاريخه قال : كان نور الدين قد جمع العساكر من الموصل والجزيرة وديار بكر ليتركها بالشام في مقابلة الفرنج ويتوجه بنفسه إلى مصر ، فإنه رأى من صلاح الدين فتورا في غزو الفرنج ، وكان المانع لصلاح الدين خوفه من نور الدين ، فكان يقصر في غزوهم ، وما كان يرى نور الدين إلا خلاص القدس منهم واستئصالهم من السواحل ، فمضى إلى دمشق وأقام يتجهز فأدركه أجله وهو على هذه النية.
ذكر وفاته
كان ختن ولده اسماعيل يوم الفطر ، وهنىء بالعيد والطهور ، ومدحه الشعراء ، وخرج نور الدين يوم الأحد إلى المصلى بالأمراء والأجناد ، والقدر يقول : هذا آخر الأعياد ، فمرض وبدأ به الخوانيق ، وما كان يرى الطب ، قال الرحبي الطبيب : فاستدعانا ، فدخلنا عليه ونحن جماعة من الأطباء وهو في قلعة دمشق في بيت صغير ، كان يتعبد فيه ، وقد استحكم منه المرض واستحكمت الخوانيق على حلقه ، فما كان يسمع له صوت فشرعنا في مداواته ، فلم ينجع فيه الدواء مع حضور أجله ، وكانوا قد أشاروا عليه بالفصد في أول المرض ، فامتنع وكان مهيبا فما روجع ، وكانت وفاته يوم الأربعاء حادي عشر شوال ، ودفن بالقلعة ،