يعاقيب (١) الجبل ، والشواهين إلى مطار الحجل ، وأحاطوا بهم في مخيمهم ، وحول مجثمهم ، وقد تحصنوا بأشجار الزيتون ، وأفسدوها رشقا بالنشاب ، وحذفا بالأحجار ، وقد أحجموا عن البروز ، وخافوا وفسلوا ، ولم يظهر منهم أحد ، وظن بهم أنهم يعملون مكيدة ، ويدبرون حيلة ، ولم يظهر منهم إلا النفر اليسير من الخيل والرجل على سبيل المطاردة والمناوشة ، خوفا من المهاجنة ، إلى أن يجدوا لحملتهم مجالا ، أو يجدون الغرة احتيالا ، وليس يدنو منهم أحد إلا صرع برشقة أو طعنة ، وطمع فيهم نفر كثير من رجاله الأحداث والضياع ، وجعلوا يرصدونهم في المسالك وقد أينوا (٢) فيقتلون من ظفروا به ، ويحضرون رؤوسهم لطلب الجوائز عنها ، وحصل من رؤوسهم العدد الكثير.
وتواترت إليهم أخبار العساكر الإسلامية ، بالخفوف إلى جهادهم ، والمسارعة إلى استئصالهم ، فأيقنوا بالهلاك والبوار ، وحلول الدمار ، وأعملوا الآراء بينهم ، فلم يجدوا لنفوسهم خلاصا من الشبكة التي حصلوا فيها ، والهوة التي ألقوا بنفوسهم إليها ، غير الرحيل سحر يوم الأربعاء التالي مجفلين ، والهرب مخذولين مفلولين (٣) ، وحين عرف
__________________
(١) جمع يعقوب وهو الحجل. القاموس المحيط.
(٢) الأين : الإعياء والتعب. النهابة لابن الأثير.
(٣) وصف سبط ابن الجوزي أحوال دمشق في أواخر أيام الحصار بقوله : «ولما ضاق بأهل دمشق الحال أخرجوا الصدقات بالأموال على قدر أحوالهم ، واجتمع الناس في الجامع مع الرجال والنساء والصبيان ، ونشروا مصحف عثمان ، وحثوا الرماد على رؤوسهم ، وبكوا وتضرعوا ، فاستجاب الله لهم ، فكان للفرنج قسيس كبير ، طويل اللحية ، يقتدون به ، فأصبح في اليوم العاشر من نزولهم على دمشق ، فركب حماره ، وعلق في عنقه صليبا ، وجعل في يديه صليبين ، وعلق في عنق حماره صليبا ، وجمع بين يديه الأناجيل والصلبان ، والكتب ، والخيالة والرجالة ، ولم يتخلف من الفرنجية أحد إلا من يحفظ الخيام ، وقال لهم القسيس : قد وعدني المسيح أنني أفتح اليوم.
وفتح المسلمون الأبواب ، واستسلموا للموت ، وغاروا للإسلام ، وحملوا حملة رجل واحد ، وكان يوما لم ير في الجاهلية والإسلام مثله ، وقصد واحد من أحداث دمشق القسيس ، وهو في أول القوم ، فضربه فأبان رأسه ، وقتل حماره ، وحمل الباقون ، فانهزم الفرنج ، وقتلوا منهم عشرة آلاف ، وأحرقوا الصلبان والخيالة بالنفط ، وتبعوهم إلى الخيام ، وحال بينهم الليل ، فأصبحوا قد رحلوا ، ولم يبق لهم أثر». مرآة الزمان / ٢ / ١٩٨ ـ ١٩٩.