القول ماثورة ، أو يضيف إليه فوائد تاريخية خطيرة ، ظل خاطري حائما على مورد التأليف ، وقلبي هائما بسفر طريف ، إلى أن مكّنتني التقادير الممكنة ، بعد لبثي على تلك الصخرة الدرنة (٨) ، نحو أربع عشرة سنة ، من السفر إلى بلاد الإنكليز المتمدّنة ، فاغتنمت هذه الفرصة عجلا وظننت أني أدركت أملا ، وعوّلت على أن أشفع تأليف الواسطة برحلة يعظم وقعها ، ويعم نفعها ، فصرت أقيد ما عنّ لي من الخواطر في وصفهم ، وتارة أنقل من الكتب ما ليس فيه للفكر مسرح ، وللطرف إليه مطمح ، فإن شؤونهم متشعبة ، وأحوالهم مستغربة ، وأنحاءهم شتّى ، ومقاصدهم تستغرق وصفا ونعتا ، ويعلم الله أني مع كثرة ما شاهدت في تلك البلاد من الغرائب ، وأدركت فيها من الرغائب ، كنت أبدا منغّض العيش مكدّره ، كمن فقد وطره ، ولزمته معسرة ، لا يروقني نضار ولا نضرة ، ولا نعمة ولا مسرّة ، ولا طرب ولا لهو ، ولا حسن ولا زهو ، لما أني كنت دائم التفكر في خلوّ بلادنا عما عندهم من التمدن ، والبراعة والتفنن ، ثم تعرض لي عوارض من السلوان بأن أهل بلادنا قد اختصّوا بإخلاق حسان ، وكرم يغطّي العيوب ويستر ما شان ، ولا سيّما الغيرة على الحرم ، وصون العرض عمّا من هذا الصوب يذم ، ثم أعود إلى التفكر في المصالح المدنية ، والأسباب المعاشية ، وانتشار المعارف العمومية ، وإلى إتقان الصنائع ، وتعميم الفوائد والمنافع ، فيجفل ذلك السلوان ، وأعود إلى الأشجان ، وكذا كانت حالة السيّد الأكرم المونس ، أمير الأمراء حسين باشا من أمراء تونس ، فإنه لبث في باريس مدّة طويلة ، وخواطره ببلاده أبدا مشغولة ، فكان يلازمه الأرق ، والهم والقلق ، حتى مكّنه اليوم البري تعالى من تحسين تلك الحاضرة ، وإمدادها بالمرافق الوافرة ، فلله الحمد على بلوغ أربه ، وحصول مطلبه ، فإن تبهية الأمصار الإسلامية ، أشهى إليّ والله من كل أمنية ، كيف لا وعن المسلمين كان أخذ التمدن والفنون في الأعصر الغوابر ، وكانوا قدوة في جميع المناقب والمفاخر ، والمحامد والمآثر ، وهذا التفكّر والأسف ، والتفكّن (٩) المستأنف ، كثيرا ما حملني على الإضراب عن التأليف ، لعلمي أنّ كلامي فيه لا يكون إلا دون
__________________
(٨) الدرنة : الوسخة. (م).
(٩) التفكّن : التأسف. (م).