كانت من الأسباب التي حفزته إلى تقرّي هذه المدنيّة وفحصها عن كثب. يضاف إلى ذلك معرفته بالشيخ رفاعة الطهطاوي أحد أقطاب النهضة الحديثة في مصر ، وصاحب الرحلة المعروفة ب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» حيث من المرجّح أن تجعله أكثر اقتناعا في ارتياد الغرب والتحقّق ممّا يقال فيه أو عنه.
فلمّا سنحت له الفرصة في السفر إلى إنكلترة ، والإقامة فيها لسنوات سارع إلى تدوين هذه التجربة في كتاب شامل يبزّ به سلفه الطهطاوي ، الذي كان يكنّ له الكثير من الاحترام ، ويجعله دليلا ومرشدا لمن تتوق نفسه إلى معرفة الغرب ، وما أنجزه من التقدم والرقيّ.
إن من يمعن النظر في سيرة الشدياق ، لا سيّما أثناء إقامته في أوربا يلحظ أنّه لم يتوقّف عن السعي للوصول إلى سلاطين زمانه في كل مناسبة ، لعلّه يجد عند أحدهم خطوة تمكّنه من أن يسعد في ظلّه من جهة ، وليضع في خدمته مواهبه وقدرته على المساهمة في الإصلاح والتنوير من جهة ثانية.
وسرعان ما قاده الحظ إلى تونس ، حيث استقدمه «الباي» من باريس كما أسلفنا ، وكان هذا الحاكم المصلح آنذاك يعمل على تحديث بلاده ، وبناء دولته على أسس عصرية ، وقد أسند تنفيذ هذه المهمّة إلى خير الدين باشا التونسي أحد المصلحين الكبار ، وأحد أركان النهضة والإصلاح في الأقطار الإسلامية ، والذي رآه الشدياق جديرا بأن يهدي إليه مدوّنته عن حضارة الغرب ، مشفوعة بقصيدة عصماء يعدّد فيها مناقبه. يقول في مطلعها :
إذا كان خير الدين عنّي راضيا |
|
فما ضائري أن أغضب الدهر والوسعا |
هو البحر جودا والصباح صباحة |
|
ونور الدجى نفعا ولطف الصّبا طبعا |
فأثابه خير الدين بخاتم من الماس ذكره الشدياق في هذه القصيدة ، ثم طبع الكتاب بمطبعة الدولة التونسية سنة ١٢٨٣ ه.
وربما كان الشدياق في هديّته تلك «كجالب التمر إلى هجر» كما «أنّ العوان لا تعلّم الخمرة» فالوزير التونسي لم يكن خبيرا بشؤون السياسة والإدارة فحسب ، بل