العقلية بمزيج من
الآراء الكلامية يتخير من ثمارها العربي ما أراد.
وكان هذا الزخم الحضاري حرياً بطرح كل
الفروض الفكرية في رحاب العربية ولغتها الفياضة ، فأنت معه في معين مترافد لا ينضب
، وشعاع متألق لا يخبو ، هذا كله إلى جنب علوم القرآن وما أورثته للعربية من
التفتح على آفاق جديدة في ظاهرة الوحي ، وأسباب النزول ، وجمع القرآن ، وخضم
القراءات ، وحياة النسخ ، ومجال الامثال ، وطرق التشريع ، وإرساء المصطلح في المحكم
والمتشابه ، والمجمل والمبين ، والخاص والعام ، والمطلق والمقيد ، وما أضاف ذلك من
تنظير فجائي في لغة الجدل ، وعالم الحجاج ، مما كانت معه العربية حافلة بقيّم
خلاقة جديدة ، نوّرها القرآن في علومه حتى قال ابن مسعود :
« من أراد علم الأولين والآخرين فليثور
القرآن » .
وتثوير القرآن يعني التدبر فيه ، والبحث عن جزئياته ، والعكوف على حيثياته الكبرى
، وفي هذا دعوة واضحة إلى الاجتهاد ، وإعمال الفكر مما تتسع له دائرة علوم القرآن
في ميادينها عند رد الأصول إلى الفروع ، والنظم إلى متعلقات التركيب ، واللغة إلى
جذورها في التصريف والاشتقاق.
وهكذا ظهر لنا التأريخ الحضاري المشترك
بين اللغة العربية والقرآن الكريم مما شكل مظهراً إجتماعياً متلازماً ، فالحفاظ
على اللغة يعني الحفاظ على القرآن ، وصيانة لغة القرآن يقتضي صيانة لغة العرب ،
لارتباط وجودها التأريخي بوجوده التشريعي ، واستمرار رقيها بلمح من إستمراره ،
ولما كان القرآن الكريم ، معجزة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم
الخالدة ، وهو مرقوم بهذه اللغة الشريفة ، فالخلود متصل بينهما رغم عادية الزمن ،
وهذا أمر يدعو إلى الاطمئنان على سلامة اللغة ، وأصالة منبتها. وهنا يتجلىٰ
أثر تيسير القرآن في تفسيره وعلومه بالكشف عن أسرار العربية وكنوزها دون عناء
ومشقة .
__________________