وَيَسْفِكُ
الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ
مَا لا تَعْلَمُونَ (٣٠) )
.
هذه هي البداية بهذا الجعل التكويني
المستفيض الذي لا يقبل الردّ ، وهنا تنطلق قضيّتان : الأولى هذا الأستفهام من
الملائكة : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن
يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ
) ولا يمكن أن
يصوّر هذا الاستفهام في طلب المعرفة وإستيضاح الحال بأنّه إعتراض على الله ، لأن
الإفاضات التي حصل عليها الملائكة ، وهم عباد مقربّون مكرمون ، لا تبيح لهم
الإعتراض والانكار ، فهم أعرف بجلالة المقام الالهي ، وسمو الحضرة القدسية ، وقد
يقال بأنهم قد أشكلوا على الله تعالى لمزيد الإفاضة عليهم ، فيكون الحال مزيجاً
بين الاستفسار والاسترحام والتلطف في المسألة لا على جهة الاعتراض والانكار ، وهذا
الإشكال على هذا النحو لا يشكّل ما لا يجوز لهم ولا يباح ، لأنهم طلاب معرفة ، وهم
يستشكلون الأمر لأنهم يقدّسون الله ويسبحونه ، فعلىٰ هذا يكون الباعث على
ذلك مجرد التعجب من وجود حالتين متقابلتين : حالة الملائكة وهم بين التسبيح
والتقديس لله في السماء ، وحالة البشرية في الإفساد وسفك الدماء في الأرض ، فكان
الجواب : إنه يعلم ما لا يعلمون ، فسلّموا للأمر تسليماً.
هذا الانقداح الذهني في التصور الملائكي
قد يكون للشفافية التي جبلوا عليها في الخلق ، فهم يتفرسون بما سيحدث لو وُجد هذا
المخلوق البشري ، وهو ظاهر السياق القرآني ، وقد يقال : بأنّ الله خلق خلقاً قبل
آدم ، وقد أفسدوا في الأرض ، وسفكوا الدماء ، وكأنهم قاسوا هؤلاء على أولئك ، وهذا
مما لم ينطق به القرآن ، وهو من القياس الباطل.
القضية الثانية : بعد أن خلق الله آدم
حكى الله ما حدث بقوله : (
وَإِذْ
قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ
أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ
(٣٤) ) .
وهنا يظهر إمتناع إبليس من السجود ،
فزجره الله تعالىٰ : (
قَالَ مَا
مَنَعَكَ
__________________