فلم أر أمرا أفزع ولا أوحش من ذلك ولا أعظم واشق علي من الحال التي كنت عليها في الغار فما جاءني الناس مع صاحبي حتى كدت أهلك غما فاحتملنا صاحبينا وذهبنا فمن ذلك الوقت ما رجعت للتحنث إلا أن أذهب زائرا ثم أرجع.
قال أبو سالم والانفراد عن الناس لا سيما في المفازات والمغارات البعيدة عن العمران لا يقوى عليه إلا من أيد بروح القدس وكانت له همة عالية وسقطت من قلبه مخافة غير الله تعالى فإن الإنسان دني الطبع لا يحتمل وحشة الانفراد لا سيما إن نزلت به ملمة وهو منعزل عن الناس فإن عيشه يتكدر وحاله يتغير وتضيق نفسه وتخرج من معتادها فربما يتلف من ذلك أو يذهب عقله وأما من كان قلبه متعلقا بالله لا يلتفت إلا إليه في السراء والضراء فذلك هو قرة عينه ولو انطبقت السماء على الأرض ما زاده ذلك إلا تلذذا بما فيه لأنه في تلك الحال يقوى تعلقه بربه وانحياشه إليه وتنتفي الخواطر المشتتة له في أودية الأغيار وأي شيء هو طلبة المريد وبغيته إلا هذه الحال ولذلك قيل مواسم الفاقات أعياد المريدين.
قال ولا أظن أن شيخنا في ذلك الوقت كان من أهل هذه الحال لما غلب عليه من محبة العلوم الرسمية وصرف بعض الهمة إليها يدل على ذلك استصحابه لكتاب بداية المجتهد ومن كانت هذه حاله وإن كانت محمودة لا يقوى على تحمل واردات القدر الخارجة من باب القهر المتلفقة بمروط الجلال والهيبة لتعلق قلبه بأمور وخيالات وعلوم هي في الحقيقة وسائل فإذا تجلى الحق بصفة القهر ذهبت الوسائل وحق الحق وبطل ما كانوا يعلمون فيفجأ القلب أمر غير معهود له ولا مألوف ولا متصور قبل ذلك فلا تسأل عما يكابده من ألم الغربة والوحشة والخروج عن المألوف نسأل الله تعالى أن يثبت قلوبنا ويؤيدها بنور المعرفة عند كل وارد وعند واردات القهر خصوصا ويشهدنا اللطف المصحوب بها ويغرقنا في بحار التلذذ بمشاهدته