فالحاصل أن هذه المفازة القادم عليها كالقادم على القبر فقد تقرر فيها الموت الأبيض فالتدمية البيضاء محققة فتحقق أمر الركب انه يسلك على طريق الجبل الأخضر لما علمت أنه لا ماء في السروال إلا إذا لطف الله بوجود الغدير فإنهم ينتظرونه كما ينتظرون ماء السماء فسرنا مراحال ونحن في تجاه الجبل والسير بحذائه بحيث يقرب سيدنا سفح الجبل غير أن الطريق وعرة وصعبة على الإبل إنما ألجأ إليها الضرورة.
فلما أن وصلنا تلك الشعب القريبة لجردس وتجاوزناها وجد الناس غديرات فيها ماء فأكثر الركب قد استقى منها غير أن الإبل أصابها عطش عظيم وقد غبّت كثيرا فلما ظعنا من ذلك المحل وجد الناس غديرا قرب النزول في التغليس فمنهم من مر عليه من غير علم به ومنهم من سمع به فأعرض عنه غير أن الذي ظهر للناس تزاحموا عليه بالإبل حتى غيروه وخوضوه فاختلط به الطين فسرنا كذلك إلى أن وصلنا إلى جردس فنزلنا على الماء فتفرق الناس عليه وهو ماء قليل فتزاحمت عليه الناس ازدحاما عظيما فلم يستطع أحد شر ماء وقد تعذر علينا سقي الخيل وأما ملء القرب فمتعذر قطعا.
نعم بعض الناس قد استحيى منا فسقى الخيل وأعطى لنا ما نطبخ به وإلا فأكثر الناس قد بات بلا سقي ولا استقاء فلما تعذر الأمر قلنا لأصحابنا دعوا السقي إلى قراغ الناس منه فيتسع المجال بحيث تبقى الآثار منفردة خالية وكان الأمر كذلك فلما فرغوا من السقي وجدنا الوسع فسقينا واستقينا وشربنا وشربت الإبل وكذا الخيل وبقي الناس هناك بعضهم رفع وبعضهم تخلف لقضاء حاجته فلما سقينا وملأنا القرب لحقناهم فماؤه طيب عذب لو لا أنه قليل يرشح رشحا وإنما يقضي الناس مآربهم بطول المدة.