عقله في مزدلفة الوحدانية ، يلتقط درر الكمال ، في سعة (١) مشاهدة (٢) الجلال والجمال ، فذلك نسك أهل اليقين باضمحلال ، وهذا كله قد تخيله المحب الصرف في بيت البشر والأطوار ، ودار الشهوات واللذات من غير استبصار ، فصاح صيحة انطوى فيها الليل والنهار ، وأظلم الكون طرا فلم يتعب من الأسفار ، ولا حرج عليه من شدة المفازة في البر والبحار ، إذ رأى أن قلبه ركب مطية الأنوار ، واستعد إلى مشاهدة العزيز الجبار ، واتصل في أسرائه بسدرة الاستقرار (٣) ، ما ضل صاحبه وما غوى بالتجلي من النهار ، وما ينطق عن الهوى حال الوصول إليه في عرصات المختار ، فاعتراه وحي الهام الحقائق بأنها لا سواها يخفى باستتار ، فلما غاب في عين الجمع بملاحظة الفرق إليه صار ، إذ بيت الرب فيه فرق بالاعتبار ، علمه شديد القوى أسباب الانتقال من الجوار ، فاستوطن بسعة الشهود بالاعتمار ، فأحال الإحرام عن النظر إلى غيره أصلا بالتعظيم والاستكثار ، وهو بالأفق من الأوصاف العالية ثم دنا فتدلى إلى كعبة القرب والمشاهدة فحيره البغت فذهبت أثار عبوديته ، في كنه ربوبيته ، فمحتها ولم يبق لها أثار ، هذا في قالبه جنون ، وفي قلبه فنون ، فلما حركه لم يسكن إلا بمولاه فلم يرفث برؤية النفس ، ولم يفسق بالاعتماد عليها في مقام الأنس ، وكذا لم يجادل الأعداء ولا أحدا من الخواطر لغيبته عن الحس ، فقد حج قبل سفر الأجباح ، بالتنقل والتنزل في عالم الأرواح ، فحج الأجباح دليل عليه ، ومسبب لديه ، فزاد هذا هو فمنه إليه ، فإن التعلق بأستار الكعبة علامة على التعلق بعين الذات ، وكنه الأسماء والصفات ، وكذا يشير إلى الحضرة ودخول المقام ، برعي الحفظ والذمام ، والسعي بين الصفا والمروة سعي بين صفاء القلوب ، في التخلق (٤) بأوصاف المحبوب ، فلم
__________________
(١) كذا في جميع النسخ.
(٢) في نسخة مشاهرة.
(٣) في نسخة الاستغراق.
(٤) في نسخة بالتخلق وفي أخرى بالتحقق.