وكان الوزير عادة يستمع لآرائه ، ويستشيره في مسائل الدولة الهامة ، وقد جمع القاضي ثروة طائلة ، ومن وقفياته التي خصصها للبر والإحسان : وقفية حبس إيرادها لفداء الأسرى المسلمين من أيدي المسيحيين ، كما شيد مدرسة ألحق بها مكتبة تحتوي على أكثر من مائة ألف مجلد (١). كان هذا القاضي أحد الذين ألحوا في حض صلاح الدين على خلع الخليفة الفاطمي (٢) وحظي عمارة لفترة من الزمن برعاية القاضي الفاضل ، وعكف على تأليف كتاب «تاريخ اليمن» استجابة لرغبته ، لكنها صداقة ما كانت لتدوم طويلا بين اثنين مثلهما تباينت سجاياهما ، وقد فرقت بينهما أحداث السياسة ، وفطن عمارة قبل انقضاء وقت طويل أن القاضي ليس سوى عدو له.
ويحكى أنه لما صدر الحكم بموته اقترب القاضي من صلاح الدين ليساره ، فصاح عمارة قائلا : «مولاي لا تسمع إلى ما يقوله عني». فانصرف القاضي مغضبا ، والتفت صلاح الدين إلى الرجل المنكود وقال له : «لقد كان يتشفع لك». فخفض عمارة رأسه صامتا. وكان هذا الحادث في نظره وفي نظر كل من كان حاضرا علامة على أنه لا مرد لقضاء الله.
أما عن اشتراك عمارة في المؤامرة التي اتهم بها ، فمن المقطوع بصحته أنه أثار ريبة أتباع صلاح الدين ، ثم ألهب من بعد حقدهم عليه بدفاعه في جرأة ـ إن لم يكن في طيش ـ عن الأسرة المخلوعة ، وبأشعاره الحماسية التي كان دائما على أهبة نظمها.
حدث ذات مرة أن قصد مع أحد الشعراء إلى نجم الدين أيوب والد
__________________
(١) خطط : ٢ / ٧٩ ، ٣٦٦.
(٢) ينسب هذا القاضي إلى بلدة بيسان من قرى الأردن بين حوران وفلسطين. قدم القاهرة وخدم فيها في أيام الخليفة الحافظ الفاطمي (٥٢٤ ـ ٥٤٤ ه.). وترقى حتى صار صاحب هذا الديوان ، ولما قدم أسد الدين شيركوه إلى مصر اتخذه كاتبا له. ولما آلت الوزارة إلى صلاح الدين الأيوبي ، استعان بالبيساني في إزالة الدولة الفاطمية ، ثم جعله وزيرا له ومشيرا ، فظل في الوزارة إلى سنة ٥٩٦ ه. حيث مات وهو في طريقه لقتال الملك العادل بن أيوب الذي كان يرغب في غزو مصر (وفيات : ١ / ٣٥٧ ـ ٣٥٩ ؛ خطط : ٢ / ٣٦٦ ـ ٣٦٧).