البديع الصنعة والنقش ، تنطبق عليها على شبه أبواب مجالس القصور. فشاهدنا من حسن بناء هذا الجامع وحسن ترتيب أسواقه المتصلة به مرأى عجيبا قلما يوجد في المدن مثل انتظامه.
ولهذه البلدة مدرسة ومارستان ، وهي بلدة كبيرة ، وسورها متين حصين مبني بالحجارة المنحوتة المرصوص بعضها على بعض في نهاية من القوة ، وكذلك بنيان الجامع المكرم. ولها قلعة حصينة مما يلي الجهة الشرقية منها منقطعة عنها بفضاء واسع بينهما ، ومنقطعة أيضا عن سورها بحفير عظيم يستدير بها قد شيدت حافاته بالحجارة المركرمة ، فجاء في نهاية الوثاقة والقوة. وسور القلعة وثيق الحصانة. ولهذه البلدة نهير مجراه بالجهة الشرقية أيضا منها بين سورها وجبانتها ، ومصبه من عين هي على بعد من البلد.
والبلد كثير الخلق ، واسع الرزق ، ظاهر البركة ، كثير المساجد ، جم المرافق ، على أحفل ما يكون من المدن. وصاحبه مظفر الدين بن زين الدين ، وطاعته إلى صلاح الدين وهذه البلاد كلها من الموصل إلى نصيبين إلى الفرات ، المعروفة بديار ربيعة ، وحدها من نصيبين إلى الفرات مع ما يلي الجنوب من الطريق ، وديار بكر التي تليها في الجانب الجوفي كآمد وميافارقين وغيرها مما يطول ذكره ، ليس في ملوكها من يناهض صلاح الدين ، فهم إلى طاعته وإن كانوا مستبدين ، وفضله يبقى عليهم ، ولو شاء نزع الملك منهم لفعله بمشيئة الله.
فكان نزولنا ظاهر البلد بشرقيه على نهيره المذكور ، وأقمنا مريحين يوم الاثنين ويوم الثلاثاء بعده ، وإثر الظهر منه كان اجتماعنا بسلمة المكشوف الرأس الذي فاتنا لقاؤه يوم الاثنين ، فلقيناه بمسجده ، فرأينا رجلا عليه سيما الصالحين وسمت المحبين مع طلاقة وبشر ، وكرم لقاء وبر ، فآنسنا ودعا لنا ، وودعنا وانصرفنا حامدين لله عز وجل على ما منّ به علينا من لقاء أوليائه الصالحين وعباده المقربين.
وفي ليلة الأربعاء التاسع لربيع المذكور كان رحيلنا بعد تهويم ساعة ، فأسرينا إلى الصباح ونزلنا مريحين بتل عبدة ، وهو موضع عمارة ، وهذا التل مشرف متّسع كأنه المائدة المنصوبة ، وفيه أثر بناء قديم ، وبهذا الموضع ماء جار. وكان رحيلنا منه عند المغرب ، وأسرينا الليل كله ، واجتزنا على قرية تعرف بالبيضاء فيها خان كبير جديد ،