ذكر مدينة الكوفة حرسها الله تعالى
هي مدينة كبيرة عتيقة البناء ، قد استولى الخراب على أكثرها ، فالغامر منها أكثر من العامر. ومن أسباب خرابها قبيلة خفاجة المجاورة لها ، فهي لا تزال تضربها ، وكفاك بتعاقب الأيام والليالي محييا ومفنيا. وبناء هذه المدينة بالآجر خاصة ، ولا سور لها. والجامع العتيق آخرها مما يلي شرقي البلد ، ولا عمارة تتصل به من جهة الشرق. وهو جامع كبير ، في الجانب القبلي منه خمسة أبلطة ، وفي سائر الجوانب بلاطان. وهذه البلاطات على أعمدة من السواري الموضوعة من صم الحجارة ، المنحوتة قطعة على قطعة ، مفرغة بالرصاص ، ولا قسي (١) عليها ، على الصفة التي ذكرناها في مسجد رسول الله ، صلى الله عليه وسلم. وهي في نهاية الطول ، متصلة بسقف المسجد ، فتحار العيون في تفاوت ارتفاعها. فما أرى في الأرض مسجدا أطول منه ولا أعلى سقفا.
ولهذا الجامع المكرم آثار كريمة : فمنها بيت بإزاء المحراب عن يمين المستقبل القبلة ، يقال : إنه كان مصلى إبراهيم الخليل ، صلى الله عليه وسلم ، وعليه ستر أسود صونا له ، ومنه خرج الخطيب لابسا ثياب السواد للخطبة. فالناس يزدحمون على هذا الموضع المبارك للصلاة فيه. وعلى مقربة منه ، مما يلي الجانب الأيمن من القبلة ، محراب محلق عليه بأعواد الساج ، مرتفع عن صحن البلاط كأنه مسجد صغير ، وهو محراب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه. وفي ذلك الموضع ضربه الشقي اللعين عبد الرحمن بن ملجم بالسيف ، فالناس يصلون فيه باكين داعين. وفي الزاوية من آخر هذا البلاط القبلي ، المتصل بآخر البلاط الغربي ، شبيه مسجد صغير محلق عليه أيضا بأعواد الساج ، هو موضع مفار التنور الذي كان آية لنوح ، عليه السلام. وفي ظهره ، خارج المسجد ، بيته الذي كان فيه ؛ وفي ظهره بيت آخر يقال إنه كان متعبد إدريس ، صلى الله عليه وسلم ؛ ويتصل بهما فضاء متصل بالجدار القبلي من المسجد ، يقال : إنه منشأ السفينة. ومع آخر هذا الفضاء دار علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، والبيت الذي غسل فيه. ويتصل به بيت يقال إنه كان بيت ابنة نوح ، صلى الله عليه وسلم.
__________________
(١) قسي : أقواس (جمع قوس).