الحجاج في طريقهم إلى عرفات. وصدر عن هذا الأمير عثمان المتقدم ذكره في ذلك اجتهاد بل جهاد يرجى له به المغفرة لجميع خطاياه ، إن شاء الله. وذلك أنه تقدم بجميع أصحابه شاكين في الأسلحة إلى المضيق الذي بين مزدلفة وعرفات ، وهو موضع ينحصر الطريق فيه بين جبلين فينحدر الشعبيون من أحدهما ، وهو الذي عن يسار المار إلى عرفات ، فينتهبون الحاج انتهابا ، فضرب هذا الأمير قبة في ذلك المضيق بين الجبلين بعد أن قدم أحد أصحابه فصعد رأس الجبل بفرسه ، وهو جبل كؤود ، فعجبنا من شأنه ، وأكثر التعجب من أمر الفرس وكيف تمكن له الصعود إلى ذلك المرتقى الصعب الذي لا يرتقيه ... فأمن جميع الحاج بمشاركة هذا الأمير لهم ، فحصل على أجرين : أجر جهاد وحج ، لأن تأمين وفد الله عز وجل في مثل ذلك اليوم من أعظم الجهاد.
واتصل صعود الناس ذلك اليوم كله والليلة كلها إلى يوم الجمعة كله. فاجتمع بعرفات من البشر جمع لا يحصي عدده إلا الله عز وجل. ومزدلفة بين منى وعرفات ، من منى إليها ما من مكة إلى منى ، وذلك نحو خمسة أميال ، ومنها إلى عرفات ، مثل ذلك أو أشفّ قليلا ، وتسمى المشعر الحرام ، وتسمى جمعا ، فلها ثلاثة أسماء ، وقبلها بنحو الميل وادي محسر ، وجرت العادة بالهرولة فيه ، وهو حد بين مزدلفة ومنى لأنه معترض بينهما.
مزدلفة بسيط من الأرض فسيح بين جبلين وحوله مصانع وصهاريج كانت للماء في زمان زبيدة ، رحمها الله. وفي وسط ذلك البسيط من الأرض حلق في وسطه قبة في أعلاها مسجد يصعد إليه على أدراج من جهتين ، يزدحم الناس في الصعود إليه والصلاة فيه عند مبيتهم بها. وعرفات أيضا بسيط من الأرض مد البصر ، لو كان محشرا للخلائق لوسعهم ، يحدق بذلك البسيط الأفيح جبال كثيرة.
وفي آخر ذلك البسيط جبل الرحمة ، وفيه وحوله موقف الناس ، والعلمان قبله بنحو الميلين ، فما أمام العلمين إلى عرفات حل ، وما دونهما حرم. وبمقربة منهما ، مما يلي عرفات ، بطن عرنة الذي أمر النبي ، صلى الله عليه وسلم ، بالارتفاع عنه في قوله ، صلى الله عليه وسلم : «عرفات كلها موقف ، وارتفعوا عن بطن عرنة» ، فالواقف فيه لا يصح حجه ، فيجب التحفظ من ذلك ، لأن الجمالين عشية الوقفة ربما استحثوا كثيرا