وقال له : من بقي عندي إذا انعزلت عني ومن يفهم عنّي ، ما كان هذا فيك ظني ، الصحبة كانت لله ، فلا تقطعها بكلام أولادك ولا بكلام غيرهم من حسادك.
فلما أكثر عليه من هذا ، لان له وعزم على الحضور عنده ، وترك الدرس والتدريس ، وكان مع والدي كما قال بعضهم :
من لي بمن يبق الفؤاد مودة |
|
وإذا ترحّل لم يزغ عن عهده |
يا بؤس نفسي من أخ لي باذلا |
|
حسن الوفاء بقربه لا بعده |
يولي الصفاء بنطقه لا خلقه |
|
ويدسّ صابا من حلاوة شهده |
لا همّ إني لا أطيق فراسة |
|
بل أستعيذ من الحسود وكيده |
وكان الشيخ أبو عبد الله القصري يومئذ بالمدينة ، وكان يحضر الدرس على يمين والدي ، والشيخ أبو عبد الله بن حريث على يساره ، فأغاظهما ذلك وكثرت أنا عليهما الشكوى ، فاجتمع الشيخ أبو عبد الله القصري بوالدي وقال : لا سبيل إلى أن ترجع إليه ، ولا يخلصك هذا من الله.
وشدد عليه وأقسم عليه حتى رجع من ذلك الرأي ، فأصبح في مجلسه مع جماعته والسراج منفرد مع أصحابه ، فعاود الاجتماع به وكثّر عليه.
وقال له : ألم أقل لك لا تسمع من هؤلاء الذين يريدون فرقتنا وذهاب أبّهتنا ، ما هذا مليح والرأي أن لا تفعل وترجع إلى مكانك معي ، فأنا أعلم أنك لا تحب الفتنة ولا الظهور ، وفي هذا الذي أنت فيه تجري أمور.
ولم يزل به حتى رجع إليه ، فرجعت إلى الشيخ أبي عبد الله وعرفته بما يفعل السراج معه ، فعاوده الشيخ وأقسم عليه وشدّد عليه العزيمة.
فقال له والدي : أخشى أن يتعدى الحال إلى فرقة وعصبية ، فيذهب نور العلم وتفسد النيّة ، وهذا اليوم حاكم وأنا من طبعي وعادتي أني لا أناصي (١) أحدا ، ولو كان لي ولدا.
فقال له : الترك أسهل عليك ، وعلينا أسلم لنا إذا عجزنا.
__________________
(١) يعني : لا أستقصي عليه. وانظر «لسان العرب» ، مادة : «نصص».