ومنهم الشيخ محي الدين الحوراني (١) ، أقام بمكة مدة طويلة تفقه بها ، وأدرك الحافظ محب الدين الطبري الكبير فتفقه عليه.
ثم أقام بالمدينة نحوا من عشرين سنة على اشتغال بالعلم وتجرّد من الدنيا ، وكانت له خزانة عظيمة مشتملة على كتب حفيلة ، مثل : «الرافعي» و «ابن الرفعة» ، و «الروضة» ، وغير ذلك من الكتب المنتقاة ، أوقفها كلها وجعل مقرها بالمدرسة (٢) في خزانتها ، وكانت أمام بيته الذي هو في الزاوية الملاصقة لإيوان الشافعية ، وكان يظن أن المدرسة تكون أبدا على حالها في أيامه ، فشرط أن لا تغير الخزانة من موضعها ، ولو رأى حالها اليوم ما قيدها بهذا الشرط.
ولما خيف عليها أمر القاضي بحملها ووضعها في خزانة الكتب اليوم ، وهو البيت الذي على باب المدرسة أصلح الله أمرها ، ورد إليها حالها.
وكان الشيخ محيي الدين نائبا في الحكم عن القاضي سراج الدين لما سافر إلى مصر ، فحكم وعدل ، ودرّس فما قصّر ، وكان والدي رحمهالله يحضر درس السرّاج ، فلما سافر السرّاج. قال محيي الدين الحوراني : لا يحل لي ولا لك أن تحضر معي وأنت قادر على القيام بشرط الواقف في تدريس جماعتك والانفراد بهم في إيوانهم.
فتوقف والدي خوف فتنة السراج ، ولما يعلم من خلقه وكراهيته لهذا الأمر ، فعزم محيي الدين على والدي وشدد عليه ، فجلس والدي في إيواننا اليوم ، وهو الإيوان الذي فيه الشباك ودرّس ، والتفّت عليه الطائفة المالكية وبعض الشافعية ، وكان طلبة المالكية أكثر من طلبة الشافعية ، فلما جاء السراج من البلاد عزّ عليه ما وقع وأنّب الحوراني وهجره وسفّه رأيه.
وقال له : فتحت عليّ بابا كنت قد سددته ، وحسمت مادته ، والله لا تركته حتى أغلب عليه. ثم إنه اجتمع بوالدي وألان له الكلام وأضمر له الخداع.
__________________
(١) هو : أحمد بن عبد الواحد بن مري بن عبد الواحد السعدي المقدسي : ولد سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ، كان أحد المشايخ المشهورين الجامعين بين الفضل والدين ، توفي بالمدينة سنة سبع وستين وستمائة ، ترجمته في : «العقد الثمين» ٣ / ٨٣ (٥٨٨).
(٢) يعني : المدرسة الشهابية.