كان يخرج كل يوم غالبا فيباشر الغرس والعمارة ، ويخرج معه بعيش رغيد ، وخير كثير ، وكان جماعة الخدام في أيامه وقبلها ، يباشرون الأوقاف بأنفسهم ، ويحضرون الجداد بأعوانهم ، وخدامهم ، وعبيدهم ، ولا يتناولون على ذلك أجرة ألبتة ، ويخرجون معهم بالأطعمة الكثيرة الفاخرة المليحة ، ولهذا كانت الأوقاف مباركة وغلاتها متزايدة ، والبركة عليها لائحة ، حتى خلفهم من لا يتحرك في وقف إلا بأجرة ، وليته يعمل فيها بنية صالحة حتى يثاب عليها في الآخرة ، وكانت أيضا تعمر ببركة نيته ، ولو أخذ أجرته. لكن اليوم أكثر الأوقاف دامرة ؛ لأن غلتها لا تردّ في عمارتها كما أوجبه الشرع لها ، فلذلك خربت وقلّ خيرها.
ولقد شاهدت منذ زمان كان الناس فيه ناس ، يعطى الزائر فوق الصاع من التمر البرني ، حتى إن العصبة إذا أخذوا التمر يكومونه على أنطاعهم كوما ، يتعسل بعضه فوق بعض ، ومع ذلك يبقى التمر السنتين والثلاث حتى يسودّ ، ولا يجدون من يأخذه.
ولقد كنت في حال صغري ، إذا رآني خزنة التمر ينظرون من يحمل لي منه ، فيذهب به إلى بيتنا ، حتى أنكر ذلك والدي ووالدتي ، فهددني والدي. وقال : لئن رجعت تأتي إلينا من تمر الفقراء بشيء ، فعلنا بك وفعلنا ، وكان لا بدّ لي من المرور عليهم ؛ لأن التمر كان يخزن في دار الخدام المجاورة للتربة التي عمرتها زوجة ابن علم ، وفي المدرسة الشهابية ، ولمّا لم يكن بدّ أنهم يعطوني ، ترصد لي حمّال يقال له : ناشي ، يأخذ ما يعطونني.
فأقول له من خوف أهلي : خذه ولا تأتيهم به ، فيأخذه ، فعل معي ذلك مرارا. كلّ ذلك منهم محبة في أولاد المجاورين ورفقا بأهاليهم.
وكان النخل من الغابة والعمرية إذا استجد ، لا يخلص منه في شهر ليلا ونهارا.
ولقد رأيت الحمالين يضعون أحمالهم من باب رباط الفاضل ، إلى باب التربة التي نزلها الشيخ افتخار الدين ، ومن رباط دكالة أيضا إليه إذا جاؤوا مع المغرب ، لا يفرغون عن حمله وتفريغ غرائره إلا قريب الصبح.