الليل ، ويقدم لهم ذلك الطعام الذي لا يظن أنه يكفي ثلاثة فيأكل منه فوق العشرين. قال محمد (١) المذكور : ولا نزال ننفق مما يعطينا حتى نمل ثم نأخذ الفضلة بعد ذلك.
وأخبرني بذلك جماعة من أهل الخير ممن يعرف حاله قالوا كلهم : لم نر قط مثل بركة طعامه ، وكان يتواجد في الذكر ويقوم ويدور في الحلقة فيجد الجماعة منه قوة وصلابة يعجز عنها أقوياء الشباب ، بحيث إن الجماعة يملون ولا يمل ، ومتى مسك على أحد منهم أتعبه ، وكان قد أسن وكبر ، وكنت أحضر عنده أحيانا. وكان له وجه وضيء عليه نور العبادة والخير ، وله لحية طويلة مليحة تبلغ إلى سرته ، ومات رحمهالله عن وصية وتثبت وصدقة بجميع ما يملكه حتى بفراشه من تحته. توفي رحمهالله سنة أربع وستين وسبعمائة.
وكان ممن أدركناه من الأكابر الصلحاء المتقدمين في عمارة الحرم بالنجارة ، الشيخ أبو بكر بن يوسف (٢) المعروف بالمحجوب النجار ، قدم المدينة بعد حريق الحرم بالمنبر الشريف الموجود اليوم فوضعه فأحسن وضعه وفي نجارته ، وكتب اسمه عليه ، وذلك في سنة ست وستين وستمائة ، ثم انقطع بالمدينة إلى أن توفي بها رحمهالله ، كان مختلطا بالصالحين متقنعا بكسب يده ، متعففا عن الأطماع المدنّسة للأعراض ، مكبا على الخير.
كنت أجلس إليه فيحكي عن أهل زمانه غرائب وعجائب ، وكنت لا أزال أرى حوله عددا من الحيوان بين هرر ودواب قد ألفوه بالإحسان إليهم ، وكان يقول : هذا الهر جدّ هذا الهر ، وهذا خال هذا ، وهذا ابن عمّ هذا. قد ربّى منهم كثيرا وعرف أنسابهم ، وكان يحسن إلى الدواب المضيعة في الأسواق ويرى ذلك كله من جملة الصدقات ، وربما يتمثل في ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام : «في كل ذات كبد حرّاء أجر» (٣).
__________________
(١) هو : أبو عبد الله محمد بن يوسف الحليمي المتقدم.
(٢) ترجمته في : «الدرر الكامنة» ١ / ٤٦٩ (١٢٦٤) ، «المغانم المطابة» الورقة ٢٣١ / أ، وفيه ذكر باسم : «أبو بكر بن أحمد البخاري».
(٣) «المسند» للإمام أحمد ٤ / ١٧٥ (١٧١٣٤).