محرس ومسلحة ، وفيما بين ذلك محارس صغار على كلّ ميل ، وجعلت في كلّ محرس رجالا ، وأجرت عليهم الأرزاق ، وأمرتهم أن يحرسوا بالأجراس ، فإذا أتاهم أحد يخافونه ضرب بعضهم إلى بعض بأجراس ، فأتاهم الخبر من كل وجه كان في ساعة واحدة ، فنظروا في ذلك ، فمنعت بذلك مصر من أرادها (١) ، وفرغت من بنائه في ستّة أشهر ، وهو الجدار الذي يقال له جدار العجوز ، وقد بقيت بالصعيد منه بقايا كثيرة.
وكان ثمّ عجوز ساحرة ، يقال لها تدورة ، وكانت السّحرة تعظّمها وتقدّمها في السّحر ، فبعثت إليها دلوكة : إنّا قد احتجنا إلى سحرك ، وفزعنا إليك ، فاعملي لنا شيئا نغلب به من حولنا ، فقد كان فرعون يحتاج إليك ، فعملت بربى (٢) من حجارة في وسط مدينة منف ، وجعلت له أربعة أبواب ، كل باب منها إلى جهة القبلة ، والبحر والشرق والغرب ، وصوّرت فيه صورة الخيل والبغال والحمير والسفن والرجال ، وقالت لهم : قد عملت لكم عملا يهلك به كلّ من أرادكم من كلّ جهة تؤتون منها برّا أو بحرا ، وهذا يغنيكم عن الحصن ، ويقطع عنكم مؤنته (٣) ؛ فمن أتاكم من أيّ جهة ، فإنّهم إن كانوا في البرّ على خيل أو بغال أو إبل أو في سفن أو رجّالة تحرّكت هذه الصورة من جهتهم التي يأتون منها ، فما فعلتم بالصّور من شيء أصابهم ذلك في أنفسهم على ما يفعلون بهم. فلمّا بلغ الملوك حولهم أنّ أمرهم قد صار إلى ولاية النساء ، طمعوا فيهم ، وتوجّهوا إليهم ؛ فلمّا دنوا من عمل مصر ، تحرّكت تلك الصور التي في البربى ، فطفقوا لا يهيّجون تلك الصور ، ولا يفعلون بها شيئا إلّا أصاب ذلك الجيش الذي أقبل إليهم مثله ؛ من قطع رؤوسها أو سوقها أو فقء عينها ، أو بقر بطونها. وانتشر ذلك ، فتناذرهم النّاس ، وكان نساء أهل مصر حين غرق أشرافهم ولم يبق إلّا العبيد والأجراء لم يصبروا عن الرجال ، فطفقت المرأة تعتق عبدها وتتزوّجه ، وتتزوّج الأخرى أجيرها ، وشرطن على الرّجال ألّا يفعلوا إلا بإذنهنّ ، فأجابوهنّ إلى ذلك ؛ فكان أمر النساء على الرجال.
قال ابن لهيعة : فحدّثني يزيد بن أبي حبيب ، أنّ القبط على ذلك إلى اليوم اتّباعا لما مضى منهم ؛ لا يبيع أحدهم ولا يشتري إلّا قال : استأذن امرأتي. فملكتهم دلوكة بنت زباء عشرين سنة تدبّر أمرهم بمصر ، حتّى بلغ من أبناء أكابرهم وأشرافهم رجل
__________________
(١) وفيه أيضا : وقيل : إنّما بنته خوفا على ولدها ، وكان كثير القنص ، فخافت عليه من سباع البر والبحر والاغتيال.
(٢) في معجم البلدان : برابي جمع بربا ـ كلمة قبطية ، وأظنّه اسما لموضع العبادة أو البناء المحكم أو موضع السحر.
(٣) ويقطع عنكم مؤونة من أتاكم. [معجم البلدان].