وسط البلاد ، لأنّ مصر لا تؤتى من ناحية من النّواحي إلّا من صحراء أو مفازة ، وقد أقطعتها إيّاها فلا تتركنّ وجها ولا نظرا إلّا بلغته ، فقال يوسف : نعم أيّها الملك ، متى أردت ذلك فابعث لي ؛ فإنّي إن شاء الله فاعل ؛ فقال : إنّ أحبّه إليّ وأوفقه أعجله ؛ فأوحي إلى يوسف أنّ يحفر ثلاثة خلج : خليجا من أعلى الصعيد من موضع كذا إلى موضع كذا ، وخليجا شرقيا من موضع كذا إلى موضع كذا ، وخليجا غربيا من موضع كذا إلى موضع كذا ؛ فوضع يوسف العمّال ، فحفر خليج المنهى من أعلى أشمون إلى اللّاهون (١) ، وحفر خليج الفيّوم وهو الخليج الشرقيّ ، وحفر خليجا بقرية يقال لها تنهمت من قرى الفيّوم ، وهو الخليج الغربيّ. فخرج ماؤها من الخليج الشرقي فصبّ في النيل ، وخرج من الخليج الغربيّ فصبّ في صحراء تنهمت إلى الغرب ، فلم يبق في الجوبة ماء. ثم أدخلها الفعلة ، فقطع ما كان فيها من القصب والطّرفاء (٢) وأخرجه منها ، وكان ذلك ابتداء جري النّيل ، وقد صارت الجوبة أرضا برّيّة ، وارتفع ماء النيل ، فدخلها في رأس المنهى (٣) ، فجرى فيه حتّى انتهى إلى اللّاهون ، فقطعه إلى الفيّوم ، فدخل خليجها فسقاها ، فصارت لجّة من النّيل. وخرج إليها الملك ووزراؤه ، وكان هذا في سبعين يوما. فلمّا نظر إليها الملك قال لوزرائه : هذا عمل ألف يوم ، فسمّيت الفيّوم ؛ فأقامت تزرع كما تزرع غوائط (٤) مصر.
قال : ثم بلغ يوسف قول وزراء الملك ، وأنّه إنما كان ذلك منهم على المحنة منهم له ، فقال للملك : إنّ عندي من الحكمة والتّدبير غير ما رأيت ؛ فقال له الملك : وما ذاك؟ فقال : أنزل الفيّوم من كلّ كورة من مصر أهل بيت ، وآمر أهل كلّ بيت أن يبنوا لأنفسهم قرية ـ وكانت قرى الفيّوم على عدد كور مصر ـ فإذا فرغوا من بناء قراهم صيّرت لكلّ قرية من الماء بقدر ما أصيّر لها من الأرض ، لا يكون في ذلك زيادة عن أرضها ولا نقصان ، وأصيّر لكلّ قرية شربا في زمان لا ينالهم الماء إلّا فيه ، وأصيّر مطأطئا للمرتفع ، ومرتفعا للمطاطىء بأوقات من الساعات في الليل والنهار ، وأصيّر لها مصابّ فلا يقصّر بأحد دون حقّه ، ولا يزاد فوق قدره. فقال له فرعون : هذا من
__________________
(١) لاهون : بلد بصعيد مصر به مسجد يوسف الصّديق والسّكر الذي بناه لردّ الماء إلى الفيّوم.
[معجم البلدان].
(٢) الطرفاء : شجر ، الواحدة طرفة ، وبها سمّي طرفة بن العبد. [مختار الصحاح].
(٣) في معجم البلدان : المنهى بالفتح والقصر : اسم فم النهر الذي احتفره يوسف الصّديق يفضي إلى الفيوم ، مأخذه من النيل.
(٤) الغوائط : مفردها الغائط وهو المطمئنّ من الأرض.