وحكى لي والدي أنهم كانوا يقاتلون عسكر الملك الناصر حتى يصلوا المخيم ، وأنهم قبضوا على جماعة ، فكانوا يشرحون أسافل أقدامهم ليمنعهم ذلك عن المشي ، فلا يردهم ذلك عن القتال ، فلما لم ينل من حلب ما أراد صالحهم ، وسار عنها فأخرجوا إليه ابنة نور الدين أخت الملك الصالح ، وهي صغيرة ، فقال لها : ما تشتهين؟ فقالت : أريد أن تعيد إلينا عزاز فوهبها إياها ، وكان التدبير بحلب الى والدته ، والى شاذبخت الخادم ، وأمير لالا ، وخالد بن القيسراني.
ثم إن الملك الصالح رحمه الله مرض بالقولنج في تاسع شهر رجب من سنة سبع وسبعين ، فأخبرني قاضي القضاة أبو المحاسن يوسف بن رافع بن تميم قال : في ثالث وعشرين من رجب أغلق باب القلعة لشدة مرضه ، واستدعي الامراء ، وأخذ واحد واحد واستحلفوا لعز الدين مسعود صاحب الموصل.
قال : وفي خامس وعشرين منه توفي رحمه الله ، وكان لموته وقع عظيم في قلوب الناس. (١٩٠ ـ و) وكان الملك الصالح رحمه الله قد ربي أحسن تربية ، وكان دينا عفيفا ورعا ، كريما محبوبا الى قلوب الرعية لعدله وحسن طريقته ولين جانبه لهم.
قال لي والدي رحمه الله : إن اليوم الذي مات فيه انقلبت المدينة بالبكاء والضجيج ، ولم ير الا باك عليه ، مصاب به.
قال لي : ودفن بقلعة حلب ، ولم يزل قبره بها الى أن ملك الملك الناصر حلب وتسلم قلعتها فحول قبره الى الخانكاه التي أنشأتها والدته تحت القلعة (١).
قال لي : ولما حول ، ظهر من الناس من البكاء والتأسف كيوم مات ، قال : ووجد من قبره عند نبشه شبيه برائحة المسك ، رحمه الله. وحكى لي ذلك أيضا غير والدي.
وكان رحمه الله على صغر سنه كثير الاتباع للسنة ، والنظر في العواقب ، وأخبرني والدي قال : حكى لي العفيف بن سكرة اليهودي الطبيب ، وكان يتولى معالجة الملك الصالح في مرضه الذي مات فيه ، وكان به قولنج ، قال : قلت له يوما : يا مولانا والله شفاؤك في قدح من خمر ، وأنا أحمله اليك سرا ولا تعلم به والدتك ،
__________________
(١) في محلة الفرافرة. انظر الآثار الاسلامية والتاريخية في حلب : ٣٢١.