ثم أشار إلى أن إنما لها مواقع ، وأحسنها ما يقصد به التعريض فقال : (وأحسن مواقعها) أى أحسن مواضع إنما : (التعريض) أى الكلام الذى يقصد به التعريض ، وهو كما يأتى أن يستعمل الكلام فى معنى ليلوح بغيره أى : ليفهم منه معنى آخر لا ظاهره ، وذلك (نحو) قوله تعالى (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ)(١) فإنك تجزم بأن ليس المراد ظاهره فقط وهو حصر تذكر أى تعقل الحق فى أولى الألباب أى : أرباب العقول ؛ (فإنه) معلوم بل هو (تعريض بأن الكفار من فرط) ـ أى : تناهى ـ (جهلهم) إلى الغاية القصوى هم (كالبهائم فطمع النظر منهم كطمعه منها) أى ما يصل إليه النظر منهم هو ما يصل إليه من البهائم فكما أن النظر لا يطمع أحد أن يصدر من البهائم فلا يطمع أحد أن يصدر من الكفار.
وكثيرا ما يراد التعريض بالكلام المتضمن للحصر بطريق من الطرق كما يقال فى جنب من يؤذى المسلمين : المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده تعريضا بنفى الإسلام عنه فإن قلت : إفادة نحو هذا الكلام للمعنى المعرض به ظاهر ؛ لأن حصر الإسلام فيمن لا يؤذى يستلزم نفيه عن جنس المؤذى ومن جملته السامع ، وأما نحو : إنما يفهم العاقل ، وإنما يستجيب السامع فما وجه دلالته على المعنى المعرض به ؛ فإن دلالة التعريض بطريق الاستلزام؟ قلت : اللزوم هنا لا يشترط فيه كونه عقليا على ما يأتى فى دلالة الالتزام فقولنا فى جنب من أفهم فلم يفهم : إنما يفهم العاقل تعريض بأن لا عقل له لما دل على حصر الفهم على غير هذا السامع ونفيه عنه ؛ لأن قرينة عدم فهمه عند الاستعمال مع وجود من يتوهم أنه ممن يفهم تدل على أن الحصر باعتباره ، وكان الغير المحصور فيه هو العاقل فإن الكلام بتلك القرينة مقابلة السامع للعاقل يفهم نفى العقل عنه وأنه نزل منزلة البهيمة كما تقدم فى : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ)(٢) ، وإن شئت قلت : لما علق الفهم على العقل المناسب والسامع لم يفهم فهم نفى العقل عنه الذى هو العلة وإلا لوجد الفهم فليتأمل.
__________________
(١) الرعد : ١٩.
(٢) الأنعام : ٣٦.