الدهر كناية عن أحزنه ، وأضحكه كناية عن سره ، وأصاب فى هذه الكناية ولكن أخطأ فى تعبيره عن مراده بقوله : لتجمدا أى العين وهو الفرح أو السرور بدوام لقاء الأحبة (فإن الانتقال) عرفا إنما هو (من جمود العين إلى بخلها بالدموع) عند طلبه منها ، ومعلوم أنه إنما يطلب منها عند شدة الحزن ؛ لأن المقام مقامه حينئذ ، وذلك كقوله :
ألا إن عينا لم تجد يوم واسط |
عليك بجارى دمعها لجمود (١) |
أى : بخيلة ، ولهذا لا يقال جمد الله عينك أى : أسرها (لا إلى ما قصده من السرور) ولو أراد الانتقال بسرعة على مقتضى العرف إلى ما قصد من السرور لقال لأضحكا ؛ لأن الضحك يكنى به عن السرور كما تقدم كثيرا. وفى معنى البيت وجهان :
أحدهما : أن الزمان والأحبة من عادتهم عكس المراد ، فأطلب خلاف المراد لعلنى أغالطهم فيأتون بالمراد ، وهذا يحسنه إظهار أن القائل يطلب مغالطة الزمان على وجه الظرافة والتمليح ، وإلا فلا يخفى أن الأحبة والزمان على تقدير تسليم هذا إنما يأتون بخلاف المراد فى نفس الأمر لا بخلافه فى الظاهر ، ولهذا قيل : إن هذا الكلام فاسد ، وقد علمت أنه يحسن بإظهار قصد المغالطة على وجه الظرافة.
والوجه الثانى : أن المراد بالطلب ارتكاب فعل الطالب بإظهار عدم الضجر الحاصل بالصبر ، وتوطين النفس على المكروه المؤدى إلى إفاضة الدموع ؛ ليحصل عن ذلك دوام السرور بدوام التلاقى ، فإن الصبر مفتاح الفرج (قيل) : فصاحة الكلام : هى خلوصه مما تقدم (و) خلوصه أيضا (من كثرة التكرار) والمراد بالكثرة ههنا ما فوق الواحدة ، فذكر الشيء أيضا ثانيا تكراره ، وذكره ثالثا كثرة ، سواء كان المذكور ضميرا أو غيره.
(و) خلوصه أيضا من (تتابع الإضافات) وسواء كانت متداخلة أو لا فكثرة التكرار (كقوله) :
وتسعدنى فى غمرة بعد غمرة |
(سبوح لها منها عليها شواهد) (٢) |
__________________
(١) البيت لأبي عطاء السندى في رثاء ابن هبيرة عند ما قتله المنصور. يوم واسط بعد أن أمنه ، وواسط مدينة بالعراق بناها الحجاج ، والبيت في شرح الحماسة للتبريزى ٢ / ١٥١ ، والإشارات والتنبيهات ص ١٢.
(٢) البيت من الطويل ، وهو للمتنبي في ديوانه ٢ / ٧٠ ، وشرح التبيان ١ / ١٨٧ ، وفي التبيان للطيي ٢ / ٥٢٦.